اخر الاخبار

قبل ما يقرب من ثلاثة عقود لم تكن الهواتف المحمولة متوفرة بشكل واسع حتى في معظم البلدان المتقدمة تكنولوجيا، حيث كانت تكلفتها تعادل متوسط دخل أغلبية المواطنين لعدة أشهر ولم تكن ذا فائدة إلى حد ما. كانت تستخدم بنطاق ضيق جدا ولم تحدث أي فرق ملحوظ في حياة معظم الناس في معظم دول العالم.

اليوم، يمتلك أكثرية السكان هواتف جوالة؛ حيث نما عدد اشتراكات الهواتف الخلوية في العراق، على سبيل المثال، من 2002 الى 2022 الى 43.7 مليون جوال، حتى فاق عدد السكان. هذا يدلل على إن العديد من السكان يمتلكون أكثر من جوال. لقد غيرت هذه الأجهزة المحمولة حياة الناس في مختلف أنحاء العالم، ومنها بلدنا، خاصة مع تزايد عدد المتصلين بالإنترنت (في العراق في عام 2022 وصل عدد المتصلين الى 28.4 مليون). حسب احصائيات الاتحاد الدولي للاتصالات، هناك 4 مليارات شخص، من جميع أنحاء العالم يعيشون في بلدان منخفضة أو متوسطة الدخل يستخدمون هواتفهم لقضاء حاجاتهم اليومية.

لم تتمكن البشرية، بعد دخولها الثورة الصناعية الرابعة، من إدراك المزايا والمخاطر المرتبطة بالاستخدام الأوسع لتكنولوجيا المعلومات خصوصا بعد دخول الذكاء الاصطناعي (AI) بشكل كامل.

فالذكاء الاصطناعي هو تقنية تعمل على إنشاء تطبيقات تحلل وتفكر وتتخذ قرارات بشكل يحاكي ما يقوم به الإنسان من مهام في مختلف مجالات حياتنا لتشمل أبسط الأمور وأعقدها. نتجت أهمية الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية عن حاجة الإنسان إلى تقنيات تسهِّل القيام بالمهام الصعبة وتبسِّط حياته، فأصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من بيئتنا يظهر في كل مكان.

إن رقمنة المجتمع فتحت فرصًا لخلق ظروف مواتية في الأنشطة المهنية لتحسين حياة الناس والاستخدام الأكثر فعالية للإمكانات البشرية. ففي سياق وباء الكورونا، على سبيل المثال، أصبح البحث عن طرق لاستخدام الذكاء الاصطناعي للتواصل عن بعد شائعة لحل مشاكل الرعاية الاجتماعية. من المتوقع أن يكون التأثير الإيجابي من رقمنة الأنظمة الخدمية وتدقيقها، وتطوير ثقافة الابتكار، وتحسين الإدارة هي التي ستكون الأكثر انتشارا، لكن يعتمد تطوير البيئة الاجتماعية في الاقتصاد الرقمي على تطوير الشخص نفسه، وإمكاناته، ونظام إدارة يعمل بشكل جيد.

إن الفرص المتزايدة والممارسة المتمثلة في استخدام الذكاء الاصطناعي تجبر علماء النفس على البحث لفهم دور ومكانة الدماغ البشري وعملية التفكير. إن تدفق المعلومات من الإنترنت وهيمنة تكنولوجيا المعلومات يكسر التوازن بين الإيمان والمعرفة. وفي الوقت نفسه هناك خطر على الإنسان من الوقوع في هاوية الأكاذيب التي تدخل بنشاط إلى الإنترنت ووسائل الإعلام الجماهيرية.

من سلبيات روبوتات الذكاء الاصطناعي هي توليدها لأخبار مزيفة تضلل الناس، لذا يستلزم إنشاء قواعد أخلاقية أكثر وضوحًا لاستخدامها مما دفع الى مناقشات على مستويات مختلفة حول تفاعل الذكاء الطبيعي والاصطناعي والأمن والأخلاقيات المتعلقة بالموقف تجاه البشر والذكاء الاصطناعي.

تستمر هذه المناقشات حول طبيعة التغييرات في المجتمع الرقمي، ودور ومكانة الإنسان وجوهره وروحه من الذكاء الاصطناعي. على الرغم من تكثيف المناقشات حول طبيعة استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة، لا تزال هناك بحوث للكشف عن الآراء والمواقف المختلفة بشأن التغييرات الاجتماعية المرتبطة بتنفيذ الذكاء الاصطناعي. كما إن هناك مطالبات حول زيادة البحث المنهجي للكشف عن طبيعة التغييرات في البيئة الاجتماعية تحت تأثيره.

تشمل التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي على ميزات إيجابية وسلبية في مجالات المعلومات والثقافة والصناعة، كما تشير إلى إن أنظمته التي تولد المحتوى، مثل النص أو الصوت أو الفيديو، تهدف الى إنتاج مخرجات جديدة وإبداعية بناءً على بيانات التدريب. بالمقارنة مع الذكاء الاصطناعي المستخدم في المحادثة، تتمتع هذه الأنظمة بالقدرة الفريدة ليس فقط على تقديم الردود، ولكن أيضًا على توليد محتوى تلك الاستجابات.

اكتسبت التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي، والتي تجسدت في أدوات مثل جات جي بي تي (ChatGPT)، شعبية كبيرة وأعادت تشكيل إنتاج المحتوى وإنشائه. لكن، فوائد هذا الذكاء ليست متاحة للجميع على قدم المساواة، وخاصة في بلدان مثل بلدنا (انظر الى الفرق بين عدد أجهزة الجوال والاشتراكات في الانترنت في الرسوم البيانية أعلاه)، حيث يشكل الوصول المحدود إلى التقنيات المتطورة والبنية التحتية غير الكافية تحديات كبيرة.

لفهم التأثيرات المحتملة لتقنيات الذكاء الاصطناعي هذه، تتطلب تبني نموا اقتصاديا وتكنولوجيا وتحول نموذجي في كافة المجالات؛ مثل التعليم والرعاية الصحية والبيئة. هذه بدورها تؤكد على أهمية توفير الدعم والبنية الأساسية اللازمة لضمان مساهمة الذكاء الاصطناعي في التنمية الشاملة بدلاً من تعميق التفاوتات القائمة، وأهمية دمجه في سياق التخطيط والتنفيذ للبرامج الحكومية على كافة الاصعدة، حيث يشكل التغيير التكنولوجي عاملاً حاسماً في تحقيق التقدم والنمو العادل.

السؤال المهم هنا، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحول الحياة في بلدنا؟ خصوصا إذا أخذنا في نظر الاعتبار بأن أحد الأدوار الرئيسية المتوقعة هو الدور الذي سيلعبه الذكاء الاصطناعي في التخفيف من النقص الحاد في رأس المال البشري المتمرس مهنيا والمطلع على اخر التطورات في مجال عمله. كذلك هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجلب تغييرات دراماتيكية؟ هناك ثلاثة أسباب رئيسية للتفاؤل.

أولا، التحسن التكنولوجي السريع.

ثانيا، القدرة على الانتشار بسرعة أيضا. كما يحدث عادة مع التقنيات الجديدة، فإن الدول الغنية المنتجة لهذه التقنيات ستستفيد أولا، لأنه إذا انخفضت التكلفة العالية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، فقد تكون تكلفة توفيرها لميسوري الحال قليلة أيضا، مما يوفر إمكانية لانتشار أوسع..

السبب الثالث، هو أن البلدان النامية ومنها بلدنا؛ تعاني من نقص كبير في العمالة الماهرة ذات الكفاءات العالية المتعلقة بأخر الإنجازات في مجالات تخصصاتها. مثلا يرى عدد من المتخصصين بأن الذكاء الاصطناعي قد يخفف من هذا العجز، ليس من خلال استبدال العمالة الحالية، بل من خلال مساعدتهم على أن يصبحوا أكثر إنتاجية، وهو ما قد يرفع بدوره المستوى العام للصحة والتعليم والقطاعات الاخرى.

فمثلا في البرازيل، يعمل فريق على تدريب الذكاء الاصطناعي للإجابة على الأسئلة المتعلقة بالصحة. والهدف هو توفير أداة للعاملين في مجال الرعاية الصحية الأولية الذين لديهم في بعض الأحيان تدريب ضئيل. فهم يستخدمون قاعدة بيانات من الإرشادات السريرية من وزارة الصحة بدلاً من الإنترنت الذي يمتلئ بنصائح صحية وهمية. قبل نشر هذا التطبيق على نطاق واسع، تم اختباره وتعديله عدة مرات. فمثلا عند طرح أسئلة تقنية دقيقة مثل "هل دواء إيفرمكتين فعال في الوقاية من كوفيد-19؟"، فإن معدل نجاحه "مرتفع للغاية". تأتي المشكلة عندما تسأله شيئًا غامضًا، كما يفعل البشر غالبًا. إذا قلت، "لقد سقطت في الشارع فكيف يمكنني الوصول إلى صيدلية؟"، فقد يقدم تطبيق الذكاء الاصطناعي، الذي قد لا يعرف مكانك نصيحة سيئة للغاية.

ختاما، رغم أن الذكاء الاصطناعي قد يقضي أيضا على بعض الوظائف، فإن صندوق النقد الدولي يتوقع بأن تكون أسواق العمل في البلدان الفقيرة أقل اضطرابا من تلك الموجودة في البلدان الغنية. هناك احتمال آخر مثير للاهتمام هو أن الذكاء الاصطناعي قد يساعد في توفير بيانات دقيقة ومحدثة عن الأماكن الفقيرة وبالتالي المساعدة في جميع أشكال أعمال التنمية.