عند تصنيف العراقيين كشعب، لا يتردد المرء بالقول أنهم أهل الحضارة وقادة الفكر وبُناة المعرفة وواضعو القوانين. ولن ينسى العالم أننا من فتح الآفاق الكبرى حين أسهمنا في اختراع الكتابة وتدوين أعظم الشرائع التي مهدت للبشرية انتقالاتها الكبرى عبر التاريخ. وفي العصور الحديثة، التي أعقبت سقوط الدولتين الأموية والعباسية، وتعرض العراق لمطاحن الغزوات متعددة المصادر، كانت بغداد تُطحن، وتُحرق مكتباتها، ثم تُلملِم جروحها وتنهض من جديد. ذلك أنها ليست رخوة في فكرها ومفكريها، ولا هشة هشاشة البائسين، انها غنية، وهذا الغِنى يستأنفُ فيها صلابة وصلادة الجوهر ويراكم عليه. كان للمثقف العراقي على مر العصور له إسهامات إعجازية في التنوير، وفي استدامة التطلع إلى الأمام، وإلى ردم أية فجوات قد يُحدثها الأميون أو أنصاف المتعلمين. إن الصراع الداخلي الذي يعانيه بعض أبناء المجتمع يرتبط بما يمكن تسميته بالاضطراب في بوصلة الولاء. والذي يتسبب بنتائج لا يمكن أن يتوقعها ذلك الشخص نفسه. ففي حين تراه مستقيم الفكر، خالٍ من تأثيرات الوصفات الجاهزة للتعامل مع المجتمع وأفراده، تجده في حالٍ آخر لا تتمناه له، إذ يكون في موقعٍ غريبٍ عن كل ما ألفته عنه.
وهذا هو الذي نسميه الاضطراب ببوصلة الولاء. فالذي يضع نفسه داخل عدد من الدوائر التي تمنعه من الوقوف في دائرة (عراقيته)، سيكون من السهل عزله عن عراقيته لصالح الدوائر الأقصر قطرا، كالقومية والمنطقة والديانة والعشيرة والمذهب. أن الجهد الذي يمكن أن يبذله التنويريون والمثقفون هو محو أثر تلك الدوائر حتى تبقى دائرة العراق هي التي تمنح الإنسان العراقي هذا المدى العميق. لقد تغلبت (مؤقتا) الدوائر الضيقة على الدائرة الأعظم، في نظر البعض. حتى البعض من المثقفين صار يشعر بالعجز حينما يكون الصوت القادم من الدوائر الأضيق أعلى من صوت المواطنة، وصار البعض منهم يصفق للشعر الذي يتغنى بالمساحات الأضيق والتفاخر بالفتوحات التي لا تتعدى أضيق الحلقات. وفي هذه الأنطقة يعيش ويعشعش الفكر الظلامي الذي يدعو لاقتسام الوطن وتركيب الحواجز بيننا بنواعم الكلمات وبلذيذ الأوصاف التي تمجد الظلام، وتبكي على من لم نرهم ولم نعش عصرهم ولم نقف على صحيح قصصهم. الظلاميون اليوم لا يعملون بمفردهم، بل يشاركهم صمت المثقفين أو انحرافهم، فحين يصمت المثقف او ينحرف ويهادن، ينتصر الظلام المقيت، لأن الرافعة الأساسية في محاربته هي الثقافة وروادها.
يعز علينا ان يهرول بعض المثقفين للاصطفاف مع عقليات المناطقية والعشائرية والفئوية والمذهبية والقومية.
يعز علينا أن يلتجيء المثقف إلى دائرة ضيقة وينصرف عن الدائرة الكبرى وعراقيته. المثقف يعيش في الواقع ويُنيره، ويستشرف المستقبل بعين الحالم العاشق، فيما بعضهم ينظر للوراء وينبش التراث المصطنع لإثبات قصص الفرقة والموت والمؤامرات. لننظر إلى تجارب معاصرة اعتمدتها أمم خرجت من ركام المطاحن، لتبني حياةً أساسها التسامح واعتراف الجُناة بخطاياهم ومسامحة الضحايا واستكانتهم للقضاء بدلا من أخذ الثأر وتجريم الضحية.
ومما يؤسف له أن اضطراب البوصلة، يخلق لدى البعض ارهاصات تجعلهم يتعاملون مع بعض الأطروحات التافهة لبعض الجهلة على أنها منطلقات فكرية يبدأ بالبناء عليها.. وصار تقويل السلف أو نسبته إليهم، بضاعة رائجة يتقبلها أحيانا بعض المحسوبين على الثقافة..
وفي حين تُبدع الإنسانية باستخدامات التقنيات الحديثة وفائقة السرعة، يتبارى بعض المحسوبين على الوسط الثقافي لإثبات فوائد بول البعير، وجدوى التعاويذ التي تقي من الشرور والسحر. ويعود آخرون لحكايا الجدات في تقرير مصير الفتيات وضرورة ختانهن. إن الدعوات السلفية المتخلفة والتعصب المذهبي والتجاوز على القوانين، أصبحت أمورا اعتيادية، وصارت مقاومتها والتصدي لها مجرد وجهات نظر، وقد تجد من يبررها وربما يدافع عنها أو يتبناها. وأصبح ضحاياها مجرد أرقام لا معنى للتعاطف معها. إن الحقوق التي نطالب بها في مجتمع سليم، لا تعنينا وحدنا كجيل، بل هي ملاذات لأولادنا ولأحفادنا، وبالتالي لا يمكننا إيقاف التفكير بعواقبها، أو تأجيل مباشرتنا بهذا التفكير، لأن المعاول التي تهدّم أمام عيوننا مجردة من الرحمة وفي عجلةٍ من أمرها، وعندما نشدد الهمم، نستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحريق المتربص.