الليلُ يوشكُ أن يُلملمَ دُجْنَتَهُ من نافذِة غُرفتها المنيفةِ على حديقةٍ زَهيدةٍ ما تضَنّ عصافيرُ الصباح بِزَقْزَقاتِها الأليفةِ على أغصانِ النَّارجةِ العاليةِ. كانت نُوّار قد أَسدلتِ الستائرَ لِتَتّقي ضياءَ الفَجرِ الذي يتحيّنُ انتثارَه على سريرِها، ثُم ارتمتْ جسدًا نحيلًا من رَهَقِ العمل الممتد نهارًا تامًّا؛ على كُرسِيّها الفرنسي الطِّراز تروقُها قوائمُه الرشيقةُ الشبيهة بِكُعوب الظِّباء، وكأنّ فَرْشَهُ السّاتان قد استقى لُصُوفَه من تَلألُؤ بَشَرَتِها، وَضَاعَ مخملُهُ بعطرِها الجارِح النّكهة. وحينَ ارتسمَ نِصفُها الأعلى في المرآة أخذت تحدّق بعينيها الوامضتين بالنّعاس إلى ما على المنضدة، والتقطت يداها مناديل مبللةً مَسَّدَت بها وجهَها لِتُزيل بَقيّةَ مكياجها الهادئ، وقد وَهنت غلالةُ النومِ عن أن تساجي ناهديها وكتفيها، واطّرحَ على جِيدِها بعضُ شَعْرِها الذي وَخَطَتْهُ خُصَلٌ فضيّة ما أبهى امتزاجَها بسوادِهِ اللمّاعِ حين تحاكيه وضاءةُ وجهها. وهي ما تزال تدلكُ وجنتيها زَمّت شفتيها طوعًا لِرعشةٍ نافرةٍ من الأعماق، حيث أُوار رغبتها ما وَسع كدُّها بلجنةِ تفتيش المناهِج نهارًا طويلًا؛ أن يُخمدَهُ، بل ما وَسِع أن يرجئ تلهّبَهُ إلى ليلةٍ أخرى. وقنديل الزّينة المرتبض على منضدة المرآة يبصبِصُ وشلَ سناهُ الذي اكتسبه بالشحن قبل وقتٍ بعيد، كانت بصبصتُه قد جَاوَبت فتورَ صحو نوّار الذي أخذت تنشده لدونةُ السرير، وتنشّطه ليونة الشرشف الذي ابتاعته من ماركة Mido House آنئذٍ يلجُّ مجدي بخطى خاطفةٍ من بابِ الغُرفةِ لِيُجانب نوّار إلى يسارها، ويشاركَها هذا الثّغرَ من العالم، سحبَ كرسِيّا آخر، وجلس على مسافةِ ضمّةِ ساقين عنها، ونضا النظّارةَ عن عينيه اللتين انحسر لونهما اللّوزي، وضاقتا بتحديقاته الذاهلة إلى بهاء نوّار، هي جالسة أمامه ليست في أحلام طالما انتهكت يقظتَه، هو قاب قوسين أو أدنى من أن يقطعَ الفِجاجَ التي مَهَدَتْها بينه وبينها مَعاولُ بيئتهما ونشأتهما الأولى، افترّت شفتاهُ عن ابتسامة ملتذّةٍ بما يرددُ : تحيا نوّارةُ ، بأبي أنتِ لا أبي لكِ كفوٌ ولا أنا ... . بَيْنا هي تسمَّرت بسُهُومها كيف دخلْتَ البيتَ؟ كيف وكيف وكيفَ ... أسئلة لا جواب عنده عليها، مجدي نفسُهُ انفصلَ عن عَقلهِ الصارمِ الرقابة، تركَ حرصَه عليها من أن يُجلّيها معشوقتَه أمامَ أهلها، هذا الذي كَسَت الكهولةُ صُدْغيه بشعيراتٍ من فِضةِ العُمر، ورَكّزت بروحه صاريةَ الانتشاء بهيامهِ بنوّارته سنواتٍ متتالياتٍ؛ الآنَ قد سئمَ خِشيتَهَ من صدوف هذه المرأةِ عنه إذا ما ذرّ كلّ متعلقاتِهِ على مجرى العاصفة التي بَعَثَتْها طَوِيّةُ القَدر، واجتثَّ من وجدانِه كلّ وشيجةٍ ما خَلا شعورَهُ بهذه المَليكة روحه.
كانَ مجدي قد طَوى سُترتَهُ الغامقةَ الزّرقة على ساعدهِ الأيمن، ولمّا همَّ بأن يدنو إلى مليكتهِ دفعتْهُ كازّةً على أسنانِها
- ابتعد لئلا يدخل علينا نَفرُ البيت...
وبحركة رشيقةٍ سرعان ما لفَّ سُترتَهُ على عارِضيها، وظَاهَرَها موشوِشًا في أُذنيها:
ـ مليكتي، الطائرات انطلقت من بلماحيم (باحا ٣٠)* الساعةَ، فلنذهبْ إلى الأبدِ المجهول معًا
هبَّت نوّارٌ كطيرٍ أهوى بجناحيه شللُ مفاجئ! دقّاتُ المنبّه تعلو، ووتيرةُ الدوام تُعيدُ نفسَها، ولا وقت لتأويلِ ما رَأَتْ ! أسرعَتْ لتشحنَ هاتفَها، وقد تعثرتْ بِحقيبةِ أُختها المدرسيّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قاعدة جوية عسكرية إسرائيلية.