مرتبكة حياتنا الأدبية وملتبسة، لاسيّما حين اندلقت علينا سيول من النصوص والكتب، واختلط الرديء بالحسن، حتى صارت الحاجة إلى النقد مضاعفة. فالنقد فضلا عن كونه يحلّل النصوص الأدبية ويشخّص ما فيها من فن ومضمون وأنساق ثقافية؛ صار مطلوبا منه- وبدرجة ملحّة- أن يساعد الجمهور الذي يود القراءة ويُعنى بالأدب. يساعده بأن يُرشّح له الأعمال الأدبية الجيدة. فجمهور القرّاء لا يمكنهم متابعة كلّ هذه السيول من الكتب على تباينها في المستوى، فغير قليل منها صنّفها أصحابها باسترخاء وسهولة، بأن كتبوا على غلاف الكتاب (رواية)، أو كتبوا عليه (شعر)، وطبعوها في دور نشر لا تشترط الجودة والتحكيم، فطبعتها وألقت بها على الناس بالآلاف أو يزيد. فكل حكي و(سوالف) يكتبون على غلافها "رواية". وكل كلمات تُكتب متناثرة على السطور وفيها بعض تلاعب باللغة أو صور شعرية؛ كتبوا على غلاف الكتاب الذي ضمّها "شعر"!، وجرّأ بعضهم على هذا أن وجدوا شعرا يسمونه "قصيدة نثر"، فاستسهلوا أمره جهلا منهم، مستعينين بانخفاض منسوب الحياء لديهم.
ليس لنا سوى النقد، إذن. ولكن أيّ نقد؟! أليس أكثر ما يسمونه نقدا صار بعضا من المشكلة؟! نعم، الأمر صار كذلك.
نعم، لدينا نقّاد جادون ولدينا نقد جاد. لكن لدينا فئة غير قليلة من "النقّاد" ينشرون للناس "قراءات نقدية" فيها خيانة لروح النقد، وإساءة إليه. وهذه الفئة من "النقّاد" منقسمة على فريقين، فريق منهم لا يستند فيما يكتب إلى دراية بالنقد وأصوله واشتراطاته، وغير متمكن من لغته. حتى تجد مقالات ومنشورات بأسلوب (الشرنقة)، حيث يلتف الشيء بالشيء، وحيث رطانة تفضي إلى رطانة، لا تصل معها إلى نتيجة أو تتحصّل منها على معنى أو فكرة. وجلّ ما تصل إليه أنّك قرأت ركاما من مصطلحات نقدية وجملا مكدّسة فيها ثناء على الأديب وأدبه، وبطريقة فجّة.
وفريق آخر متمكن من اللعبة، لكنه ليس مخلصا للنقد، فهو لا يكتب عن نصوص أدبية. بل يكتب مقالات إنشائية، فيها تعبير عن خبرة في النقد ودراية باللغة، لكنها لا تستطيع أن تخفي عدم الجدّية والإخلاص للنقد وأخلاقياته. فتجد مقالا يصلح أن يُقال عن كلّ أدب، وأن يُقال لكلّ أديب.. وتشعر أنّهم يمكن أن يعلّموا قرّاء الكفّ والأبراج كيف يقولون كلاما، يصلح لأيّ أحد ولكل شيء وفي كلّ زمان و مكان.
وأعضاء الفريقين يشتركون في صفة واحدة، أنّهم يتكسبون بالنقد، ولا يقدّمون فائدة للأدب أو لجمهور القرّاء. وأكبر ظني أنّ الواحد منهم يصنع لنفسه جدولا، يدرج فيه أسماء الأدباء كلّهم، أو معظمهم إن لم يسعفه الوقت، ويمتد به العمر ليكتب عنهم جميعا. وغايته أن يكسبهم إليه أشخاصا لا أدباء، ويستدرج عنايتهم به، ويضمن ولاءهم له. أليسوا في الوسط الثقافي والأدبي، وقد يحتاج إلى أصواتهم لأمر ما؟! أليست كل الأمور الإدارية لهذه الفعالية الثقافية أو ذاك المهرجان لابدّ أن يكون أحدهم مسؤولا وصاحب قرار فيها؟! نعم. إذن، عليه أن يكتب عنهم كلّهم، مستعينا بالله وبإخلاصه للأدب!. إنّه باختصار شديد يتخذ من النقد طريقا للتكسّب. وهو يسعى إلى قبض الثمن مرتين: آجلا وعاجلا. يكتبون عنهم ليسترضونهم ويأملون منهم رد الجميل بجميل، بدعوة إلى مهرجان أو ترشيح لأمر ما فيه منفعة، أو في أقل تقدير أن يضمن له مقعدا بينهم فيه بعض العناية، وهذا هو الثمن الآجل. ثمّ يأملون منهم ثناءً ومديحا ونشرا يحقق انتشارا في صفحات التواصل، وهذا هو الثمن العاجل. فالمكتوبُ عنهم سيبادلون المعروف بمعروف!، بأن ينشروا ما كُتب عنهم، يُغدقوا على "الناقد" الصفات: الناقد الكبير، الكبير جدا، القدير، القدير جدا، النحرير، النحرير جدا.. وقد يكون خطيرا نجّانا الله من خطره.
ولماذا يحرم نفسه من هذه الألقاب المجانّية وفرص الشهرة والانتشار، و إشباع رغبة الذات في سماع اسمه يتردد هنا وهناك، لاسيما في هذا الفضاء الأزرق المفتوح، أقصد الفيس بوك (وأشباهه أيضا)، هذا الذي وفّر فرصة لمن هبّ ودبّ أن يقول أي شيء في أي شيء..
ثم تأتي التعليقات بعد النشر، وكثير منها يسوقها مجاملون (حين نتلطّف بوصفهم). لا يهم نوعها، المهم لدى هذا "الناقد" كثرتها، والمهم أن يبيت ليلته مستريح الخاطر ويرضي بعض جوع نفسي لديه، وأن تهنأ زوجته الطيبة و (تكشخ) أمام صديقاتها وجاراتها!.
فكيف الخلاص أيّها (الفيس بوك) اللعين؟... أظنّ أننا واقعا نعيش اللحظة التي يُقال فيه للأديب حين يُدعى إلى جلسة أدبية: ((جيب ناقدك وياك))، بعد أن كانت نبوءات للمزاح!. ومع هذه الفئة من "النقّاد" يطمئن كل كاتب نص يظنّه أدبا بحق أو بغير حق؛ إلى أنْ سيكتب عنه بما يسرّه.
لذا أقول: أيّها الناس المخلصون للأدب والمعنى؛ وأنتم تحضرون ندوة أو مهرجانا أو مؤتمرا... أرجوكم قولوا لهذه الفئة من "النقّاد": هذا عيب. قولوا لهم: لا للتطبيل والتكسّب بالنقد، كما يصنع "المهاويل" الشعبيون المحترفون في المناسبات الاجتماعية. فهم يتكسّبون بالشعر، وهم ، أيضا، على نوعين: محترف يجيد سبك الكلام شعرا، فيطلب ثمن شعره مالا، غير مخلص للشعر وغير صادق فيما يقول. وأخر يطلب مالا، ويتكسّب بالشعر، أيضا، وإن جاء شعره رديئا بلا معنى، لأنه لا يُحسن الصنعة أصلا.
أكثروا من قول (لا) في وجوههم، فلعلّ في كثرة أصوات الرفض يتعبّد طريق للردع، وتصبح (لا) ثقافة ضدٍّ، وبوصلة تصحيح. أما متى تتحقق ثقافة الضدّ هذه؟! فهذا ما لا استطيع الإجابة عليه ولا يمكن أن أقول فيه قولا. لأني أقول بوضوح، ولست ممن يعلّمون قرّاء الكف والمشتغلين بالأبراج ماذا يقولون للناس.