عقدَ مابين حاجبيه، وارتفع شاربه، وارتجف مع صراخه بوجه امرأته (أمّ حسين):
- مابك يا امرأة أيعقل أنّك للان ما استطعتِ إقناع البنت بمانريده.!!؟
أجابته أمّ حسين بعد أن نفثت الحسرات الموجعة مع نبرة أنين مكبوتة:
- إنّ (آمنة) لم تتمّ ربيعها العاشر بعد، وقد نجَحتْ بتفوّق إلى الصفّ السّادس الابتدائي، فكيف تريدني أن أسلّمها لرجل يقترب عمره من الستين.!!؟
- ماهذا الكلام.؟ إنّ الرجل لايعيبه عمره.
- بل يعيبه؛ فبعد بضع سنوات من الزّواج سوف لايكون باستطاعته تلبية مشاعر العاطفة لزوجته.
- أتعلمين أنا لم أصدّق أذناي حينما فاتحني الحاج (أبو مهدي) جارُنا القديم بالأمر بعد أن رآها معي آتيًا بها من المدرسة بعد تسلّمها نتائج الامتحانات، واستوقفني أمام باب عمارته السّكنية قبل أسبوعين، وكان يتحدّث معي، وعينه لاتنزل عنها.
قاطعته أمّ حسين بنبرة غضب وتشنّج:
- ماهذا الذي تقوله.. إنّه مريض ، وسيّئ الخلق حقّا. كيف ينظر للأطفال هكذا.؟
- أنا لايهمّني بمَ تفسّرين مشاعره، وافهمي؛ إنّنا سنناسب الحاج أبو مهدي صاحب الأملاك والجاه المعروف، وسيتغيّر حالنا، ويصيبنا الخير العميم.. افهمي يا امرأة.
- يا أبا حسين أنا قلتُ لك منذ البداية إنّك تطلب من ابنتنا آمنة المستحيل.
انتفض أبو حسين، واتسع بؤبؤ عينيه بقوّة صارخا:
- ماذا تقولين.؟ هل هذا ماوعدتِني به.. أن تتكلمي بمثل هذا المنطق الأعوج.. أنا أبوها ، وأعلم بمصلحتها قبل أيّ شخص اخر.
- أنت تريد بيعها لمغتصب أطفال.
- اصمتي يا امرأة تبّا لك ماهذا الكلام.؟.. أتعلمين كيف أصبح الحجّي أبو مهدي.. إنّه كبير تجّار النّجف الان، وصاحب فندق الثّقلين، ومزارع فدك، وعمارات الزهراء السّكنية.. ماذا تقولين بربّك.؟.
أجابته أمّ حسين، والدّمع يتردّد بين الجفون له التماع مصحوب بالألم والحسرة ، وهي تحاول منعه عمّا يريد؛ فقالت له مع بدء انهمار دموعها:
- أبو مهدي (العتّاك) جارنا السابق الذي كان يجمع الخردة، والمستهلكات أصبح بقدرة قادر كبير تجّار النجف، وصاحب الأملاك والأموال الطائلة مؤكد أنّها أملاك، وأموال حرام.
فردّ عليها بحنق ونبرة استهزاء:
- وهل سرق من بيت أبيك.. رجل يعرف كيف يكسب المال بشطارة ومكر، ثم هذا ليس موضوعنا .
- حسنا يا أبا حسين، ولكنّك تعلم أنّ آمنة مازالت طفلة صغيرة .
- بربّك هذا كلام لامرأة تعي مصلحة ابنتها.. أقول لك إنّه الحاج أبو مهدي؛ سوف ينقلها، وينقلنا إلى عالم اخر كلّه خير، وأموال وعطايا لاتنقطع، ثم إنّها قد بلغت، وأتاها الحيض مثلما أخبرتني قبل أشهر.. أليس كذلك.؟
أمّ حسين: نعم ولكنّها للان تلعب بالدّمى التي أجلبها لها من السّوق.. إنْ يأتيها الطمث فهذا لا يعني أنّها بلغتْ، وأصبحتْ قادرة على رعاية بيت، وزوج، وأطفال.
- دعي هذا لعناية الله، فأمّ المؤمنين عائشة قد تزوّجت الرسول، وهي ابنة تسعة أعوام، وابنتك آمنة ستتجاوز العشر سنوات.
- يارجل.. أتصدّق أنّ الرسول (ص) يتزوّج طفلة!؟ إنّما هي رواية محلّ اختلاف كبير، وأذكّرك نحن في القرن الحادي والعشرين الأمور تغيّرت كثيرا ، وأنا أريد أن أرى ابنتي مثل ابنة اختي محامية، أو مثل ابنة أخي مُدرسّة..
- اخرسي.. أنتِ تشاهدين سوء حالنا ، وضعف معيشتنا، ومانعانيه من تربية الأولاد، ومصاريفهم، وطلباتهم التي لاتنتهي، وأملي بزيجة ابنتنا الكبرى آمنة للخلاص من ضيق أحوالنا ..
تنهّدت أمّ حسين، وأطرقت لتسقط نظراتها على جوانب البيت الذي أكلت الرطوبة جدرانه قائلة لزوجها بعدما شعرت أنّها قد سقط بيدها:
ص حسنا .. سأتحدّث مع آمنة، وأرى بماذا ستردّ.
رفع أبو حسين يده مشيرا بسبّابته إليها قائلا:
- اعلمي يا امرأة.. إن لم تقنعي آمنة بهذا الزواج فاجمعي أغراضك، واذهبي إلى بيت أخيك لأنّي سأرمي عليك يمين الطلاق .. أفهمتِ .
أطرقت أمّ حسين برأسها، وقد استمرّت عيونها بذرف الدمع السّخين، ثمّ رفعت رأسها لتومئ به علامة على موافقتها بما طلب منها زوجها.
في مساء اليوم نفسه نادت أمّ حسين على ابنتها، وجلست قبالتها ، وبعد تردّد، وحشرجة في الصّوت قالت لها :
- ابنتي.. أنت تعلمين أنّ حلم كلّ فتاة هو أن تتزوّج، وتنجب أطفالا، وتربّيهم ؛ لتكوّن أسرة سعيدة، والان قد تجاوزتِ سنّ البلوغ، وهناك عريس لك غنيّ جدّا، وله مكانة اجتماعية كبيرة في البلدة، وسيحقّق لك ماتتمنّين من ذهب وأموال، وملابس زاهية غالية الثمن.
بقيت آمنة تنظر بعيني أمّها، وهي لاتدري مذا تقول، ولكنّها استجمعت قواها لتردّ عليها:
- ماما.. أنا أخاف مما تتحدّثين به.
- ولماذا تخافين يا ابنتي!؟
- أنا ما زلتُ صغيرة السنّ، وأحبّ المدرسة.. لا أريد تركها.
- ومن قال إنّك ستتركين المدرسة؛ أنا سأطلب من والدك أن يقنع الحاج أبو مهدي بأن يسمح لك بإكمال دراستك بعد زواجك منه.
شعرتْ آمنة بالهلع ينتابها من رأسها إلى أخمص قدميها صارخة:
- ماذا.؟ أسيكون زوجي أبو مهدي الذي كان جارنا قبل خمس سنوات!؟
أجابتها أمّها ، وهي تتلعثم خجلا من عدم قناعتها بما تتحدّث به :
- إنّه الان رجل غنّي جدّا، ومقتدر ومعروف اجتماعيا.
- يا أمّي .. إنه بعمر أبي، ثم إنّي أخاف من الزواج .
-لماذا يا ابنتي؟
قد علمتُ من صديقتي إسراء أنّ أختها التي تزوّجت قبل أشهر تعرّضت إلى آلام حادّة في ليلة الزواج، بل وحدث لها نزيف يا أمّي.. وأنا أخاف جّدا.
- ابنتي العزيزة من تقدّم لخطبتك تاجر كبير وصاحب أملاك، وعمارات، وعقارات... صحيح أنّه بعمر أبيك تقريبا لكنه سيوفّر لك كلّ شيء، وسيرعاكِ.. وأنت مصيرك اليوم أو غدا الزواج، وأقول لك شيئا.. أتعلمين إنْ لم تتزوجي هذا الرجل الحاج أبو مهدي فإنّ أباك سيطلّقني ، وستضيعين في هذه الدنيا .. صدّقيني يا ابنتي.
تركت آمنة مشهد الحوار مع أمّها لتهرول نحو دميتها الأثيرة في نفسها، وهي دمية بهيأة طبيبة ترتدي (الصدرية البيضاء)، وتحمل سمّاعات الفحص حول عنقها التي اشترتها لها أمّها قبل أشهر قليلة ، واحتضنتها لتغرقها بالدّموع السخينة.
بعد نحو شهرين، وأخذ وعطاء، ومدّ وجزر؛ كان أصدقاء الحاج أبو مهدي يحيطون به من كلّ جانب، وهم يزفّونه إلى عروسه آمنة؛ يصفّقون ويهلّلون، وبعد أن أوصلوه إلى باب غرفة النوم حيث تجلس بداخله آمنة ترتجف، وترتعد كأنّ على رأسها طير الزؤام.. التفت إليه (أبو سجّاد) أحد أصدقائه المقرّبين، وشريكه في بعض المشاريع واسعة الربح؛ هامسا بإذنه:
- نريد منك أن ترفع رأسنا اليوم، وسنجلس هنا في قاعة الاستقبال ننتظر المنديل منقوعا باللون الأحمر.... ههههههههه .
ردّ أبو مهدي القهقهة بمثلها مجيبا إيّاه:
- حسنا قلتَ بأنْ ترفعوا رؤوسكم؛ لأنّكم تشعرون بطقطقة عظامكم ؛ أما رأسي فمرفوعة دائما هههههههه. وبعد نصف ساعة تقريبا من دخول الحاج أبو مهدي غرفة النوم؛ علا صراخ الطفولة والجلبة لترجّ الآفاق، وبدأت قهقهات الجالسين في قاعة الاستقبال، وهم يسمعون الصرخات، فصاح أبو سجاد:
- يالقوّتك يا أبا مهدي، يالفحولتك. لقد رفعت رأسنا حقّا هههههه .
وماهي إلا لحظات حتى فُتِحَ بابُ غرفة النّوم بعنف لتخرج آمنة أمام الجالسين في قاعة الاستقبال الواسعة وهم ينتظرون انتصار الزّوج ممزّقة الملابس منثورة الشعر، ووجهها يضجّ بالدموع المصبوغة بمساحيق التجميل ليلحقها الحاج أبو مهدي، وبيده مسدّسه مُفرّغا بضع رصاصات منه في ظهرها لتسقط على الأرض، ويدنو منها سريعا ليفرغ ماتبقّى من الرّصاصات في رأسها لتنساب الدماء تصبغ بالأحمر القاني فجاج الأرض ، وآفاقها..
لقد حاول الحاج أبو مهدي الدّخول بزوجته، وفي كلّ مرة يحاول فيها تبعده آمنة بشدّة، فعندما تلمس لحيته الخشنة وجهَها تنتفض كعصفور يبلّله القطر لتكوّر نفسها، وتهرب منه إلى ناحية من نواحي الغرفة، حتى عِيل صبره، فحاول معها بقوّة ذراعيه ، لتقاومه بكلّ عنفوان الطفولة، وعنادها، فتمزّقت ثيابها، وهدّدها بمسدسه لتهرب من الغرفة ويلحقها منهيا حياتها؛ ثأرا لفحولته المهزومة.