اخر الاخبار

مازال الوجع العراقي وما مر بتاريخ العراق الحديث من حروب وحصار و(زعامات) كان لها الدور الاول في تدمير الاقتصاد العراقي وحرمان شعبه من العيش بسلام والتمتع بثرواته، مازال هذا الموضوع يقض مضاجع ادباء العراق، فيمطرونه روايات او قصص وقصائد تصور عمق المحنة واثرها البالغ على نفسية ومسار حياة الشعب العراقي. كل حسب اسلوبه وقدراته ومن وجهة نظره الادبية والسياسية. فالسياسة حين تقتحم الرواية قد تعطيها عمقا وبعدا انسانيا اكبر من اي اثر يتركه سياسي قيادي في العالم. وكما يقول فيليب سولرز : تعطي السياسة الانطباع بانها تسيطر على العالم فتسير دائما بالاتجاه نفسه، اليسار المتصدع او اليمين المفتت.. بينما الادب هو الباقي في كل مكان.

والرواية اكثر انواع الادب تأثيرا في المجتمع. واكثرها خلودا اذا كتبت بصدق وباسلوب سلس غير معقد، حتى لو اخضعها النقاد الى مدرسة ما، او لتقديم متعة القراءة فقط. في عبارة لأرنست همنغواي يقول: تشترك جميع الكتب الجيدة في التأكيد على انها اكثر صدقا من الواقع.. فان استطعت ان اقدّم للقاريء السعادة والتعاسة ، الخير والشر.. حالة الناس والطقس اكون عندئذ كاتبا حقيقيا”.

ورواية “جاذبية الصفر” للروائي لؤي عبد الاله الصادرة عن دار دلمون الجديدة. رواية تشدك منذ دخولك دهاليز الصفحات الاولى باسلوب سلس ومشوق وبلغة ممتعة غير متكلفة.. فتسحبك خيوط رسائلها لتواصل البحث عما ستجده في الرسائل اللاحقة دون الالتفات الى صفحاتها الـ(512) .. فانت ترافق شخصياتها باصرار حتى اخر رسالة. فالكاتب اعتمد اسلوبا مشوقا جعل الرواية عبارة عن رسائل يبعثها البطل الاول، يوسف الاستاذ الجامعي الى الرسام جليل رفيق دربه منذ الصبا وحتى لحظة عودة الاخير الى العراق. تقع هذه الرسائل او المظاريف بيد شخص مسافر والقدر يلعب دورا في تبادل الحقائب. ربما اراد الكاتب بهذه الطريقة المبتكرة ان يبعد التأويلات التي كثير ما ترافق العمل الادبي ..

  بين ايدينا عمل تتعدد شخصياته ورؤية الكاتب السياسية والفلسفية وهو يجعلنا نتجول في متاهات افكار  ونفوس الشخصيات المتخيلة والواقعية منها .ابطالها مجموعة من المغتربين يجمعهم فكر سياسي واحد، ويواجهون اخبار العراق على البعد بمشاعر مختلفة،  يجمعهم القلق ذاته والحيرة ذاتها. منذ التمهيد يعطينا الكاتب فكرة عن صاحب الرسائل او المظاريف التي ستشكل فصول الرواية واحداثها، بعدما تصل الى يد مترجم بعد تبادل الحقائب الغير مقصود. “قضيت الليل غارقا في قراءة الرسائل الغريبة، كانت مكتوبة بانكليزية متقنة تشير الى ان وراءها عقلا اعتاد على تأليف البحوث الاكاديمية” ص 12. هنا نجد البطل الرئيسي صاحب الرسائل والذي بقي مجهولا في الفصول الاولى لنعرف فيما بعد انه يوسف الاستاذ الجامعي العراقي المغترب المتزوج من انكليزية..

جاذبية الصفر، عنوان ينطبق على الكثير من الشخوص لاسيما شخصية سَدَم (حسب نطق الاسم بوسائل الاعلام الغربية) او صدام وتعلقه بالوهم الذي ادى به الى العدم! لكن الكاتب يقول: العنوان يلخص الثيمة التي تدور عليها الرسالة (جاذبية الصفر) التي جاءت لتصف حالة الانسان حين يتحرر من الانا الأعلى كما يسميه فرويد : القيم والضغوط الاجتماعية التي تفرض على الانسان المتابعة.. وهذا المفهوم قابل لان يفسر باشكال اخرى.. ممكن ان يعني فقدان الوزن كما هو في العنوان الفرعي weightlessness .. جاذبية الصفر هي حالة فردية بحتة.. وفعلا تنطبق على صدام المسكون بالوهم ان هناك اله اخذه من الصفر الى القمة ومن غير الممكن ان يتخلى عنه”.

حرص الكاتب على تنوع السرد في الرسائل او الفصول، بعضها كان ايقاعها مختلف عن ايقاع الفصل الاخر فالفصلان الثاني والرابع ايقاعهما سريع يكسران الايقاع البطيء في الفصلين الاول والثالث .. وتحرر من السرد المعروف في الرسائل فكانت اشبه بمذكرات البطل يوسف المبعوثة كرسائل لصديقه الرسام والتي لم تصله، بعد ان وقعت بيد المترجم.. خاصة واننا نعرف من احداث الرواية ان الرسام يعود الى بغداد.

تأخذنا الرسائل (الفصول المعنونة)، الى عوالم المغتربين العراقيين ومواجهتهم للحرب على العراق وكيف واجهها كل منهم عبر الشاشات التلفزيونية ووسائل الاعلام الاخرى، وقد كانت من اصعب الايام التي عانوا فيها القلق والتعذيب اليومي الذي ابدع الاعلام الغربي في التلاعب بالحقائق واختلاق بعضها او تضخيم البعض الاخر. ومع حالة الترقب والخوف على اهلهم في العراق يحاولون ان يخففوا من قلق بعضهم البعض “لاتخافي سيخرج صاحبنا من الكويت قبل انتهاء المهلة بساعات” ص 352

لكن الاعلام الغربي  كان يراعي مشاعر المشاهد الاوربي “ولكسر حالة الملل التي قد يشعرها من نقل حرب استمرت لشهور..هكذا ظل شوارزكوف يسعى لاقناعنا عبر شاشات التلفاز ..اسقاط سبع مقاتلات عراقية..تدمير زورقين حربيين ، تفجير جسور..قصف مصنع للحليب بعد ان ثبت للبنتاغون استخدامه في انتاج اسلحة كيمياوية!... ظلت الفيديوهات الحربية تؤدي الدور بتصويرها قاذفات انيقة لحظة القاءها قنابل على هيئة سكاكر من دون معرفة النقطة المستهدفة..او صواريخ تسبح بمرح كالدلافين في الهواء بعد اطلاقها من ظهر سفينة حربية صوب اهداف مجهولة ..476

للاسطورة حضور قوي وتداخل مع الوقائع والاحداث التي رصدها الكاتب ، الاحداث الواقعية غير المتخيلة خاصة الاساطير الاغريقية. فيرى الكاتب “ حسب الاساطير القديمة لم يات تفوق زيوس على الالهة الا لسببين الاول لأنه يقيم في السماء  مما يمنحه اليد الطولى على الاخرين..والثاني سلاح الصاعقة الذي يجعلهم بفضله خاضعين لارادته.. كم يشبه بوش كبير الالهه في جبروته.. فامريكا بثرائها وسعتها تعادل سماء زيوس والتحكم بالالكترون مماثل لتحكمه بالصاعقة” ص447

تداخل بعض الاساطير بما حصل لبغداد اعطى بعدا وثراءا للرواية وهي تروي ماحصل بعيدا عن التقريرية فكلنا نعرف ماحصل، وعاصرنا ما مر ببغداد خلال حرب التسعينا ت والحروب التي تلتها التي شنتها امريكا على العراق وقد وجدت فيها ضالتها في قيادات العراق ، مثل صدام او سُدم كما سماه الكاتب في الرواية، ليمنحوا امريكا فرصة لاختلاق الحروب، فكل رئيس امريكي جديد لابد له من اشعال حرب او اختلاق حرب مباشرة او غير مباشرة تديرها امريكا على البعد! كما لو ان ذلك احد شروط انتخاب الرئيس الجديد لهم!

“هل استحضر نيرون طيف الملكة الاسطورية هكيوبا، لحظة مشاهدة حلمها القديم، المروع، يتحقق على ارض الواقع، شعلة حقيقية اخفى الظلام الدامس حاملها فبدت كانها تتحرك وحدها من بيت الى اخر مخلفة وراءها حرائق متعاقبة؟ هل سلمت ملكة طروادة بما قضاه زيوس ونفذته ايدي البشر.. على العكس من طروادة وروما، اطفأ المطر الذي تساقط ليومين متتالين حرائق بغداد، لكنه لم يتمكن من ازالة تلك الرائحة الغريبة التي ظلت عالقة في هواء المدينة الرطب...”ص455-456

يعتقد البعض ان الروايات المنطوية على مراجعات جذرية حول العقيدة والوجود المفترض ان تكتب في سن مبكرة سن الشباب عمر الشك والتساؤلات. وهذا رأي غريب ولا صلة له بالواقع، فالكاتب كلما تقدم بالعمر كلما زادت معارفه ومداركه وزادت تساؤلاته وزادت فرص تأملاته بالوجود.

فالكتابة سواء كانت قصة او رواية او قصيدة ، تقتحم فكرة الكاتب وتفرض عليه الاسلوب ونوع العمل. بعيدا عن العمر والحالة. فالروائي ماريا بارغاس يوسا، يقول في احدى رسائله لكاتب شاب: اعتقد ان الكتابة الادبية رواية كانت ام قصة او قصيدة تاتيك مثل القدر “ . وانت وحظك في مواجهة ذلك القدر. وبالتأكيد لكل كاتب اسلوبه والتحكم في ذلك القدر.

لؤي عبد الاله بدأ حياته الادبية كقاص وله مجاميع قصصية منها (لعبة الاقنعة ورمية زهر، والعبور الى الضفة الاخرى واحلام الفيديو).. وله ترجمات متعددة لدراسات ادبية وفلسفية وسياسية. وقد ابدع في كتابة الرواية في مرحلة الشباب الثانية مثل (الكوميديا الالهية وجاذبية الصفر).