اخر الاخبار

منذ سنوات، عندما كنت مقيما في عمّـان، وأنا أتابع منجز الرسامة الأردنية هيلدا حياري التي ما زالت، وطوال السنوات العديدة الماضية ترسم، وتعيد رسم بذورها اللونية التي تنثرها على سطح اللوحة بسخاء وثراء وترف واضح، حتى غدت تلك البقع اللونية ليس العنصر الأهم، بل هو العنصر شبه الوحيد في بناء اللوحة، بقعا ودوائر لا حصر لتعددها، وتنوعها لونيا..

هيلدا قد تجاوزت المحنة التي قد يقع في براثنها الكثير من الرسامين الذين يبحثون عن (موضوعات) لهم، التي قد لا تكون فقط اقترابا من أشكال مشخصات الواقع لتكون مقبولة في عهود الحداثة المتأخرة في الوقت الحاضر، إلا أنها قد تتعدى (حدودها) حينما تحاول أن تعيد الارتباط مع (الموضوعات) التي “يسعى الرسام إلى تحقيقها في العمل الفني”، كما كان يفعل عدد من الرسامين الذين أنجبهم عصر النهضة حينما كان لكل لوحة قصة، سواء كانت قصة من الواقع، أو من (نصوص) ذلك الواقع، من قصص التاريخ القديم، أو قصص الكتب المقدسة، مما يخلق للرسم بنية سردية تحوّل تلك الأعمال إلى أعمال توضيحية لتلك القصص، وهو ما يسميه البرتي مفهوم consept of istorea   في كتابه (حول الرسم) الذي نشره عام 1435م، والذي ظل مفهوما سائدا قرابة ثلاثمائة عام كان الأدب والسرد يهيمنان على الرسم، وكان من نتيجة عزوف الرسامة هيلدا حياري عن الهيمنة السردية الناشئة من (موضوع) اللوحة أن تجاوزت شرط العنوان، وهو ما يفعله الكثيرون الآن، لأن العنوان في الرسم، على العكس من عنوانات الأدب التي توصف بكونها (ثريا النص) ليست هنا، في اللوحة، إلا واحدا من الثآليل الزائدة عن الحاجة، بل ومعيقا للفعل البصري وتحقق (شيئية اللوحة)، لذا لا يمكن برأينا الموافقة على رأي الكاتب المصري (محمد مهدي حميدة) بأن هدف هيلدا الحياري من ترك لوحاتها دونما عنوانات بأن “فكرة تقييد اللوحة تحت عنوان واحد تظل فكرة مرفوضة بشكل نهائي وقاطع لدى هيلدا حياري التي ترغب في منح لوحاتها عناوين متجددة لا يمكن أسرها تحت مسمى خادع ومضلل قد يقلصها في حجم محدد ومعنى بعينه”، إلا أن تلمسه للوسيلة التي اتبعتها الرسامة بأنها تحققت “عبر الطاقة اللونية المنبعثة”هو حكم صحيح رغم أن تلك الطاقة اللونية هي جزء مما نسميه شاكر حسن آل سعيد (شيئية اللوحة) التي تتعدى حدود اللون إلى كامل الوجود المادي للوحة، كما أن السبب في وقوع الكثيرين في البحث غير المجدي عما وراء الواقعة الشيئية هو اشتراطهم وجود المعنى كجزء جوهري من اللوحة، وبذلك فهم ما زالوا يحملون بقايا ذلك المفهوم الذي قدمه البرتي في عصر النهضة بينما كان الإبداع الفني ليس سوى “تفجرا من العلاقات الجدلية والحسية المباشرة بالطابع المادي للمواد والأشكال” التي تتسم بأن طبيعتها وتاريخها الخاصين، بينما  “لا ياتي المعنى من كونه تعبيرا تجريديا ولا من كونه سمة بشرية مؤكدة من الجميع، بل كشكل نابع من التجربة والابتكار” كما يؤكد بول ويليس (سوسيولوجيا الفن، الكويت 2007، ص 131)، فكان الكاتب حميدة يؤكد على “معنى كل السطح”، “معاني متجددة”، “معنى بعينه”، “اللوحة واستجلاء معانيها”، “اللوحة بمثابة المرآة العاكسة التي يستطيع الناظر أن يشاهد بها ما يعتمل بداخله من أفكار”، “اللوحة ومعناها”، “المعاني المختلفة المتمايزة والعميقة”، “أفكار لاشك في أنها ستظل باستمرار متجددة ... إنها فكرة لكل الأفكار، وأفكار عديدة تنبع من الفكرة الأم”، إلا انه يستدرك بعودته إلى (الواقعة الشيئية) دون أن يستخدم هذا المصطلح، ولكن من خلال اللون، وهو امر يحسب له، حيث يوحي للمتلقي إنّ ذلك العنصر هو الامر الجوهري في بناء  شيئية لوحة هيلدا، وبذلك يكون هذا الكاتب واحدا من قلائل الكتـّاب الذين يكتبون عن فن الرسم باعتباره (واقعة شيئية) ليس إلا، وان المادة، في الرسم، هي موطن لـ(المعنى) وليس وسيطا؛ وبذلك يكون قد انجز مقاربة ممتازة لمنجز هيلدا حياري دونما إسفاف غالبا ما يقع فيه الكثيرون عندما يحملون اللوحة بحوامل supports  لا وجود لها إلا في مخيلة البعض، وهو أمر يحمـّل المنجز ما لا طاقة له به، ولا يضيف لمنجز الحياري بل يسيء إليه برأينا.

لقد ذكرنا في مقالات سابقة إن الرسم التجريدي لابد وان ينطلق من (بلورات)(جرثومات) ذات طبيعة (شكلية)، وتلك (البلورات) هي سيل من الأشكال التي تهيمن على ذاكرة الرسام، وتظهر في أعماله، حيث تشكّل ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (المتحف الشخصي) للرسام، ولكن تلك البلورات لا يشترط فيها أن تكون مشخصة، فقد تكون كذلك وقد لا تكون، وقد صنفتُ الرسم التشكيلي اعتمادا على تلك الفكرة، أي البلورات التي تظل عالقة على سطح اللوحة دونما انمحاء مهما أجرى الرسام عليها من (تشويهات) أو اسلبة مقصودة أو غير مقصودة، فأولئك الذين انطلقوا من بلورة شكلية مشخصة مثل: علي طالب وهاشم حنون وضياء الخزاعي، وبكيفية ما، صدر الدين أمين ومحمد الشمري، فقد ظلوا أوفياء لمشخـّصاتهم مهما أوغلوا في تجريدها، أما أولئك الذين انطلقوا من اللا مشخص بلورةً يقيمون عليها أشكال لوحاتهم، وهم طائفة واسعة من الرسامين منهم: محمد مهر الدين ورافع الناصري ونزار يحيى وسامر أسامة وغسان غائب، ويضاف لهم الرسامة الأردنية هيلدا حياري والعراقي جعفر طاعون بكل تأكيد، إلا أن ما يسجل لهذين الأخيرين أنهم ظلوا، على عكس العديد من الآخرين، أوفياء لفعل الرسم الذي يحافظ على (تعبيرية) اللون وإشكاله التي ينتجها ذلك اللون، على العكس من الكثيرين الذين وقعوا أسرى فعل الطلاء الذي يحوّل الألوان إلى سطوح تبدو وكأنها قد عولجت بطرق ميكانيكية لا حياة فيها!