ذروة الزحام في السوق، تخفّ عادة كلما شارف وقت الظهيرة، وفي معظم الأوقات يكون القصاب ،كعادته ، جالساً في المقهى التي تجاور دكانه تماماً، وهي مقهى ليست بالكبيرة ، تقع عند بداية المدخل الغربي للسوق. ألصق ظهرَه المكتنز بالمسند الخشبي للأريكة التي تصدر أزيزاً واضحاً حين يتململ بجلسته أو يحرّك عجيزته التي حشرها داخل سروال عريض أسود، فبان أسفل جسده أكثر إمتلاءً ممّا هو عليه . كان يمعن النظر في الباحة المستطيلة للسوق، وكذلك بالمارة ، على قلتّهم، ولم يغفل بالتأكيد عن مراقبة دكانه الملاصق للمقهى، فهو يبرق بين لحظة وأخرى، بنظراته نحو الدكان، لتصطدم بكتلِ أفخاذ اللحم الحمراء المعلقة على واجهته ذات الجدران المطلية بدهان حليبي لمّاع وما زاد من لمعانها ، هو سقوط حزم الضوء المنبعثة من المصباح الكبير المتوهّج، وثمة في السقف مروحة بدتْ ناعسة في دورانها المتكاسل ، فبانت شبه عاجزة عن طرد الذباب المنتشر بكثافة في فضاء الدكان، وعلى الجدران أيضاً . إحدى النساء توقفتْ للتو أمام الدكان، والواضح ومن خلال تلفّتها، أنها تبحث عن القصاب صاحب الدكان، والذي تنبّه لها الآن فقام بتثاقل وإتجه نحوها، وبعد قليل، عاد ثانية الى مجلسه في المقهى، بعدما إنصرفت المرأة عنه . المقهى تعجّ بالجالسين الذين إنشغلوا مع بعضهم بالحديث ، فيما همَّ البعض الآخر بالمغادرة تباعاً، وكان من بينهم، على ما يبدو, مِنْ أصحاب دكاكين السوق نفسه، حيث شرع البعض بغلق دكانه هرباً، أو ربما تجنباً، من حرّ الظهيرة اللّاهب، أمّا هو، فكالعادة ، يحبّذ البقاء في السوق على الرغم من إشتداد حرارة الجو عند الظهيرة، وهو إذْ يبقى في دكانه، فأنه يغطّ بغفوة قصيرة، يصفها أحياناً ، بأنها تكسر جبروت سلطان النعاس حتى وإنْ كانت لوهلة خاطفة، لذا كان في الغالب يقضي وقت الظهيرة في المقهى، تماماً كما هو الآن، يجلس شاردا بذهنه نحو اللّاشيء، غير أنّ شروده لم يدم طويلاً، إذْ إنتشله منه دخول شابٍ في باحة السوق وهو يهرول دونما توقف، وها هو ينعطف يمينا وبموازاة إمتداد الدكاكين داخل السوق، وبعد أنْ أنهى في هرولته الضلع الأول والثاني من مستطيل الدكاكين ، من داخل باحة السوق، واصل هرولته وإنعطف يساراً، ليستكمل دورة كاملة في هرولته حول الدكاكين المحيطة بباحة السوق المستطيلة . كان حليق الشعر حتى ان جلدة رأسه بانت لامعة وهي تعكس رشح العرق المتصبب منها، فيما إرتدى حذاء رياضياً بدتا قدماه فيه أكثر مرونة عند الهرولة . حالة الذهول كانت واضحة على القصاب وهو يتابع مندهشاً بنظراته ما يقوم به الشاب من حركات، لكن الذي شدّ إنتباهه أكثر، هي اليد اليمنى لهذا الشاب، فقد لاحظ ، أثناء ما كان يهرول، أنّها كانت مسبلة مع إمتداد جذعه، فبدت دون حراك وكأنها ملتصقة بردفه الأيمن، لكن أصابع كفّه تتحرك بالتناوب، مبتدئة بالإبهام وكأنها تتحرك بإيعاز من جهاز آلي أو أنها تقوم بإحصاء شيء ما . وإستمر بالهرولة وأكمل دورة أخرى حول باحة السوق المستطيلة، فتعثّر هذه المرة عند كومة صغيرة من النفايات، وكاد يسقط على وجهه لولا تمكّنه بحركة لا تخلو من براعة، من أنْ يستعيد توازنه ثم إستمر في الهرولة وإقترب من واجهة المقهى، ودخل فيها، وما إن وصل قريباً من الجدار الخلفي داخل المقهى بعد أن دخلها وهو في وضع الهرولة، قفل راجعاً من حيث دخل، فلامس قدميّ رجلٍ مسنّ كان يجلس قريباً من واجهة المقهى، وها هو يصبح خارج المقهى تماماً، لكنه سرعان ما إرتدّ إليها ثانية ليرمي بجسده متهالكاً فوق الأريكة المقابلة للقصاب . بدا الإعياء عليه واضحاً، وصدره أمسى يعلو ويهبط كمنفاخِ حداد . تسمّرتْ نظراتُ القصّاب ثانية على الكفّ اليمنى للشاب وهو يحرك أصابعها على التوالي، ثم لاحت منه إيماءة سريعة الى عامل المقهى،الذي إستجاب له على الفور فجلب له ماءً وقدحَ شاي، وضعهما قبالته على طاولة معدنية صغيرة بيضاء، فعبّ قدح الماء دفعة واحدة ثم بدأ يرتشف الشاي على مهل، بينما حدّة لهاثه أخذت تخفت شيئاً فشيئاً . كان القصاب يرقب كلّ ما يقوم به الشاب إذ وجد نفسه منشدّاً وبإلحاح لفكرة إستحوذت على تفكيره ( .. ليتني أعرف ما يعتمل في ذهن هذا المخبول، آهٍ لو كنتُ قادراً على الغوص في خلايا دماغه، إذن لإطلعتُ بالتأكيد ، على كلّ خفاياه ، أو على الأقل ، لَوقفتُ على أسباب هرولته الغريبة هذه، ولكن أنّى لي الوصول الى دماغ هذا المخبول ؟ ) . وعلى الرغم من أنه أقنع نفسه بصعوبةِ تحقّق هذه الفكرة، لكنه إستسلم ثانية لدغدغةِ هاجسٍ آخر ، كان يعلم مسبقاً إستحالة تحققه أيضاً ، ومع ذلك إستساغه تماشياً مع أوهام نفسه. ( إذا كنتَ مصرّاً على معرفة ما يدور في ذهن هذا الشاب، فليس أمامك من طريقة إلاّ .. إلاّ ماذا ؟ إلاّ أنْ تتمكّن من قطع رأسه لتضعه بطريقة ما، أو وفق أيّ كيفية مناسبة الى جانب رأسك أو ….... ولكن كيف سيتم هذا الأمر؟ هل جُنِنتَ يا رجل؟ ثم هل تحسب أن رأس هذا الشاب هو قطعة غيار يمكن رفعها من مكان وتركيبها على مكان آخر وفقاً للمزاج؟ إنها فكرة لا تقل سفاهة عمّا يحمله هذا المخبول؟ ) . راح الشاب بعدما إرتشف الشاي على مهل، يتفحّص الوجوه القريبة منه وتحديدا وجوه جلّاس المقهى لتتسمّر نظراته أخيراً نحو جسد القصاب بسرواله الأسود العريض وبسكّينته التي دسّها تحت حزامه الجلدي . همس لنفسه ونظراته ما زالت مصوّبة بحدة نحو سكّين القصاب وكأنه يوجّه حديثه نحوها ( إنّ هذا الرجل مخبول حتماً، مخبول ليس إلاّ، وإنْ لم يكن مخبولاً، فما الذي يدفعه الى حمل سكين بهذا الشكل السافر وأمام الناس جميعاً دون خجل؟ ) .
ثمّ نهض وإنتصب واقفاً بحركة رشيقة جداً، وإنطلق مهرولاً باتجاه بوابة السوق التي دخل منها أول الأمر، لتقذف به خارج السوق . فيما ظلّ القصاب يرقبه بإندهاش وحيرة، غير أنه بدأ الآن يشعر بالنّعاس يداهمه بإلحاح وبقوة فإستجاب له ونام ثانية داخل المقهى المجاورة لدكانه .