اخر الاخبار

في القسم الأول، تطرقنا الى البنى التحولية لنظم المعرفة بفعل حاجات الانسان المتطورة ابتداءً من الغذاء بعدة اهم اداة في صراع البقاء، و تبينا ان النتاجات التي نصفها نحن ابناء زمن اخر بعيد عن ازمنة الموصفات في تحليلنا، نصفها بالفن لم تكن كذلك في ذهن الانسان المنتج لها فهي احدى ادوات الحل لما يستشعر من مشاكل ممثلة لرغباته مستقبلية بتراكمها اسست لنظم مفاهيمية بعضها وصل الى التقديس. وبفعل التراكمية في تداولاتها الواسعة تشكلت منظومة وعي للمعرفة الفاعلة في تحقيق الانتماء في التقبل والرفض التي احيلت الى منظومة معرفية وانتماء خليط بين البنيتين السيكولوجية الفردية والجمعية، وبين المنظومة الأبستمولوجية  لدى الانسان. ان ما نقصده بالوعي الجمالي هو انتماء معرفي ناتج عن ضواغط  مختلفة  تشكل هذا الانتماء، ومن ثم تبدأ في قبولها او رفضها. ان حركة المعرفة متسلسلة ومبنية على مستويات التتابع في الفهم التي تتحول من البسيط الى المركب، فما البسيط وما المركب.؟  البسيط يتجسد في فهم الوجود بم تستلمه الحواس: مثلا  هذه شجرة وهذا كلب وهذه ورده، اي بمعنى ان الفهم يصف الموجود كما هو : اما المركب فهو جواب عن اسئلة مثلاً: ما الفرق بين الشجرة والكلب.؟ فضلا عن مركبات اعلى يكون فيها التأويل اوسع ويحمل اوجه الاختلاف في الرأي. وان الوعي الجمالي وانعكاسه في الاداء (الفن) يكون على وفق حركة التأويل التي في حقيقتها حركة تفلسف للظواهر الحياتية التي تجابه الانسان. وهذه الظواهر متحركة متجددة بفعل ضواغط تجابه الانسان فردا او جماعة اساسها متحولات الاستمرار بالعيش بفعل التطور و التحول المضطرد. وازاء ما قدمنا لا بد ان نكشف هذه الضواغط التي تؤسس صورة الانتماء الجمالي وكيف يتحول من حال الى حال: -

1/ضاغط الفسيولوجي المرتبط بصراع البقاء:-

يتمركز في الغذاء والتكاثر والمحافظة على الذات من عوارض الوجود المختلفة، لتوجه طاقة الوعي نحو الغذاء واسس له بنى مفاهيمية تطورت وتحولت عبر مستويات النمو الحضاري الانساني، ويمكن الرجوع لدراسة  تاريخ الاغذية فنجد ان الثقافة المتلاقحة بين الشعوب اسست لهذا التنوع والانتماء، وتعد الروائح والعطور والتوابل الغذائية الا ادوات وصور لذاك التحول في الوعي الجمالي.

ويمكن وصف ضاغط الجنس محفزا لبناء جماليات في أساليب تزيين الجسد للمرأة والرجل، واضفاء جماليات ذات علاقة في تفعيل هذه العملية .

2/ ضاغط التوازن مع البيئة الطبيعية للإنسان :-

يتمثل بأفضل الوسائل التي تحقق الغبطة والراحة والرفاه في مجابهة الطبيعة وعوارضها المختلفة كما في حالة الحرارة والبرودة فبدأ الانسان يؤسس  لجماليات الملبس، و التكوين المعماري  للسكن،  وما تطوراته عبر العصور الا تحولا من ان يكون الملبس والعمارة المتنوعة من اجل المحافظة على الجسد من عوارض الطبيعة الى مستويات متجددة لانهائية من طرق و وسائل  الاظهار الاصورة لتحقق توازن مع متغير مفاهيمي للبيئة المكانية و الاجتماعية، فتأسست ابعاد جمالية مختلفة فيها المنظومة الفئوية والطبقية، وما تاريخ الالبسة والزي فضلا عن العمارة الا صورة واضحة عن هذه الجدلية بين معالجات البيئة وبين ضاغط الاظهار والاستعراض الفئوي والطبقي، والامر يدخل الى جماليات الحياة المختلفة، التي تعاملت مع اشكالية البيئة المتنوعة للإنسان.

3/ ضاغط النمو الحضاري :

مع تطور النمو الحضاري للإنسان و والدعوة لرفاهيته، بدأ الوعي الجمالي يتنوع الى مجالات اخرى اساسها متع الحياة بإفضاء المسرة على النفس بارتياحا وغبطتها العالية، وبدأ مع صوت الانسان ( الغناء) ثم الموسيقى ثم الصورة والشكل التي بدأت من الكهف لا بضاغط جمالي بل بضاغط افتراضي له بعد ميثولوجي، لان رسوم الكهف كانت تحمل تعويذة تحقق له رغبات الانتصار والحصول على الغذاء بواسطة الصيد، كما اسلفنا في القسم الاول، فهي رغبات احيلت الى طقوس، ثم بعد ذلك احيلت الى سلوك تطور حتما بفعل تلك الوقائع الحياتية في انتصاراته على ضواغط بيئته الخارجية.

4/ ضاغط السلطة:-

في تطور المجتمع الانساني ونموه الى مرحلة الدويلات والامبراطوريات، تحول الوعي الجمالي الى مستوى في اظهار القوة والعظمة والرفعة والتسامي ملامسا لتوصيفات الالهة التي اسسها الانسان توافقا مع رغبات اصاب النفوذ من سلطة الحكم و الدين، كل ذلك اسس الى جماليات جديدة تعتمد صناعة ابلاغ دراماتيكي مؤثر.

هذا الذي نجده على نحو واسع في فنون وادي الرافدين ووادي النيل بتمثل في اظهار القوة والعظمة والسطوة،  للسلطتين الدينية و الحاكمة المتوافقة المصالح دوماً،  الامر واضح في النتاجات الفنية لكل الفترات عبر تاريخ البشرية.

 5/ضاغط التأويل :-

مع البناء الحضاري الواسع و نمو الاختلاف في الراي، بدا الانسان ينظم افكاره بتأويل يتخطى الحس المباشر الى مستويات من التفلسف ومنها فلسفة الصورة الجمالية شكلا او صوتا فبدأت الجماليات الاولى في التأويل (الهارمونطيقيا) بتسلسل مع نمو البنية الابستمولوجية، حيث نجد ان اولى المراحل ذات البعد الجمالي مع الفن الاغريقي التي تنامت بتتابع فحققت ما نسميه ونؤشره في تاريخ الفن بالفنون الرومانية والغوطية وعصر النهضة و الرومانتيكية والانطباعية والحداثة ما بعدها، ويتميز الاغريق بتلك الدعوة التي توازن بحسابات رياضية عملية الإظهار لسمو الجسد الانساني وتشريحه الدقيق، فضلا عن علاقة ذلك التسامي الروحاني الذي يربط الجسد بالسماء والقوة المفرطة والنبل والفروسية كما ان للفن الاغريقي تأكيد واضح في احالة الصورة الى تأويل منفتح نحو متساميات قيمية ذات ابعاد روحانية واخلاقية. على وفق ما ذكرنا  يتبين ان الوعي ما هو الا انتماء أبستمولوجي مؤسس بضواغط عديدة يحقق الصورة التي تشكل انفعالاتنا ومنها الجمالية او ما يحقق لنا الاحساس بالجمال، وبذلك فان الوعي الجمالي يختلف من شعب الى شعب اخر، او من شريحة الى شريحة اخرى، وصولا الى الاختلاف في الطبائع والانتماءات الفردية. نعم هناك من مشتركات في وعينا للجمال، لكن هذه  المشتركات تشكل نسبة من ما هو مختلف بفعل التنوع في الضواغط المحيطة بالإنسان والتي ذكرنا اهمها انفاً. الا ان المتغير الباعث على الانتباه يتمثل في تناقص حتمي للفوارق بين البشر في الانتماء او التقبل الجمالي بسبب التسارع في ادوات الاتصال و التواصل بين شعوب الارض، و تمظهر قوى العولمة التي عملت بالنتيجة التداولية الى اذابة هذه الفوارق. ان الوعي و التقبل الجمالي يعد جزءاً من حركة نتاج الدماغ و صورته الفسيولوجية  كمادة ذات تنظيم عضوي التي تعمل على جدلية علاقة بين البنية الدماغية و ما ينعكس من العالم المادي و المفاهيمي الخارجي.   بانعكاس العالم المحيط بالإنسان  في مفاهيم واحكام ونظريات الخ. ودائرة الاحاطة بالإنسان اتسعت في جغرافيتها المكانية و الزمنية بفعل التطور الهائل لتقنيات الاتصال و التواصل، لهذا يمكن عد الوعي و التقبل الجمالي صورة من انشطة الفكر المنتج للمعرفة ( المعرفة الجمالية) المؤسسة لحركة الفن وتحولاته التي يمكن رصدها من فجر التاريخ الى يومنا.