اخر الاخبار

عند قراءتنا للمعرفة الانسانية منذ بداياتها الاولى الى يومنا هذا؛ نجدها تتشكل بمنظومتين الاولى تحولية والثانية تراكمية وهما جدليتا المنحى ، اذ لا يمكن فصل التحول عن التراكم والعكس صحيح ، ففي اي تراكم معرفي يختبئ التحول وفي اي تحول نجد التراكم متجسد في بنيته و بنائه، ومن ثم فأن النص الفني الجمالي الذي نسميه في تداولاتنا العامة بالعمل الفني او المنجز بظاهرة المادي عاش عبر عصور التاريخ مع فاعلية التحول والتراكم . الامر الذي يحيلنا الى منطق المعرفة العلمية بتأكيد ان المعرفة منظومة منتجة بفعل الكشف الذي يسبقه الافتراض والبحث بأدوات التجريب ومن ثم الشك والتساؤل وصولا الى ما يمكن ان يكون تثبت نسبي . عند قراءة تاريخ الحضارة الانسانية ولا سيما المعرفية تنكشف متحولات مهمة على صعيد الاداء المعرفي المتمثل في النتاجات الابداعية المختلفة ، كما هو حال العلوم والآداب والفنون . وهذه التحولات مصدرها بنية الوعي الذي يبني هذه التحولات ، و يؤسس منظومة معرفية بذاتها تصل في مستوياتها الى مستوى العقائد والأيدولوجيات ، فأي تحول هو تغيير مشاكس مستفز لمنظومة معرفية تتمظهر بأداءات ابداعية مختلفة ، وازاء ذلك نجد ان التحول في حقيقته مستوى من الرفض لما سبق زمنه  يعمد الى اعادة بنيته التركيبية بمستويات من التقويض او التفكيك ، والامر يحتاج الى مشاكسين في منظومة المعرفة اساس مشاكستهم الرفض والاختلاف، ومن الطبيعي ان يجابهوا بالذم والتوبيخ او بمستويات اعلى من ذلك ، هذا بأجمعه ظاهرة الحضارة و صورة بنائها في كل مظاهر الحياة.  أن فكرة التحول التي ذكرناها تحيلنا الى نظرية (الاختلاف)  التي بدت فاعلة ومؤثرة في اتجاهات الفكر النقدي ذو البعد الفلسفي المعاصر، كما نجده عند الفيلسوف (جيل ديلوز) عن طريق كتابه الشهير (التكرار والاختلاف ). أن هذا التحول مصدره الرغبة الجامحة في الاختلاف والمشاكسة والرفض لأسس التحولات في الوعي الجمعي الأبستمولوجي كما اسس متغيرات في الوعي الجمالي مما حقق جدلية في صراع الاداءات الفنية كما نلتمسها في الفنون التشكيلية والتحولات الكبرى فيها . لتؤسس متراكمات تؤثر احداها ب الاخرى مع التتابع الزمني. وعلى وفق ما ذكرناه فأن المتحول في النتاج الفني اذا ما امنا ان الفن صورة من صور المعرفة يخضع لأسسها فبالتحول و التراكم  عبر عصور التاريخ تتبين هيكلية الفن في كونه مدونة الانسان التي تعلن عن ماهيته او جوهره الوجودي ، ومن ثم يمكن ان تكشف قراءة الفن كنصوص تحمل معاني و مفاهيم بعضها مباشر الفهم وبعضها متخفي ، والقراءة احالة ابتدائية الى النقد،  لان مؤسساته تعتمد الخطاب النقدي من حيث القارئ ان كان منتج للنص او القارئ المتلقي له. إلا ان لهذه القراءات المتحولة بفعل تحول النصوص ذاتها في اسلوبيتها وبناءها وقصدية بثها الى الاخر (المتلقي) نجدها تعتمدً منظومتين الاولى نقدية والثانية تاريخية،  فعندما نبحث في المنظومة المعرفية نجدها انشطرت مع التطور والتقدم الى شطرين،

 الاول: يتصف بعمق تاريخي بمرجعيات في التتابع التحولي المثبت من حيث التدوين نسميه بالمعرفة الفكرية الفلسفية والأدبية الانسانية.

الثاني: برغم قدمه في النتاج المعرفي الا ان تدوين نتاجه احدث نسبياً نسميه بالمعرفة العلمية في اعلاها الرياضيات والهندسة ومن ثم علوم الكيمياء والفيزياء الى اخره، فمتثبتاتها العلمية جاءت بعد حين لتعلن الصحيح من الخطأ، وحتى ما يبدوا تثبتاً فهو معرض للتقويض مستقبلاً بينما نجد ان المنظومة الاولى التي نسميها بالدراسات الادبية والفلسفية تتصف بإشاعة اختلافات على نحو واسع، اذ تمثل جزء من طبيعة التفكير البشري ويمكن ان توصف بمسبب حيويته و استمراره . 

هذا المنطق اسس له (كارل بوبر) في منطق المعرفة العلمية و اعتمده كذلك ( جان بياجيه ) .

وإزاء ذلك يتضح ان انتصار المعرفة العلمية بنتاجها المادي الفيزيائي يعد المهيمن، ولاسيما عبر قرون الخمس الاخيرة بينما بالمقابل بفعل صراع الافكار الفلسفية و الادبية بما تتسم في احيان ما بالعاطفة  تميزت بتراجع في الفعل الإجرائي، لان الانسان توجه الى ما يمكن ان يحقق له الفائدة المباشرة الفاعلة المنتجة في حياته اليومية. انها برجماتية العلم و نتاجه في علاقاته المجتمعية . لهذا يتفق منظرو المعرفة أن الحاجة المتنوعة تُعد من أهم الضواغط المنتجة لبنى المعرفة، بل تمثل على وفق زمن المعرفة المساحة الأوسع أو الأكبر، برغم وجود ضواغط أُخر لها أهميتها في البناء الحضاري الإنساني  تعلقا حتما ب الضاغط الاجتماعي وهما: الضاغط الفسيولوجي والسيكولوجي. إلا أن ما يلاحظ فيهما هو تمظهر حاجات داخلية تحركهما وتؤجج متطلباتهما. بما يحقق امكانية البحث في الضواغط التي تشحذ المعرفة لتنكشف محركات استمرارها عِبر زمن وجود الإنسان، لكنها تغيرت بحكم تحولات المعرفة ذاتها.  في بحثنا هذا نؤكد لبديهية علمية نلتزمها ونعمل عليها اساسها أن أي نتاج مهما كان ضئيلاً في مستوى أفعاله هو جزء من البنية المعرفية الانسانية، ومن ثم فإن ما يُعد في مستوى الصغر والبساطة يمكن أن ينمو ويحقق تراكماً مع مجاوراته ليكون من الظواهر المعرفية الكبيرة  للإنسان.

 وازاء ذلك يمكننا عد (العجلة) التي أكتشفها الإنسان بفعل الملاحظة و الافتراض و التجريب بتحولات تراكمية هي البذرة الأولى لاكتشاف هذا المركب التفاعلي (السيارة). وعليه لا يمكن الاستهانة بصغائر الأمور التي نتوهم بضآلة بقيمتها الان، لأنها ابتنت ما يُعد عظيماً عند استدعاء مجاورات معرفية وزجِّها في بنية المنتج أو الانجاز الذي نصفه بالضآلة والصغر. و الامر يشمل متحولات الفن و الادب . وكما اسلفنا و نؤكده أن الفن معرفة لا تختلف عن المعارف المجاورة سوى بوسائط الإظهار، وهذه البديهية أثبتتها العلوم الفسيولوجية الحديثة ، بتقويض فكرة الموهبة والإلهام الفني مع تقديم فكرة التجربة والتجريب و متراكم الخبرة . قد تكون هناك استثناءات لكن الاستثناء لا يقاس عليه بحسب منطق البحث العلمي. وعلى وفق ما ذكرنا يمكن عد الفن منظومة معرفية تعتمد اسس المعرفة وتفاعلاتها ، وبالنتيجة لا تختلف عن المعارف الاخرى، كما هو حال الكيمياء والفيزياء والرياضيات وعلوم الطب ...، ولهذا يدرس الفن على مستويات التعليم المختلفة الى مستوى الدكتوراه .

الجذر الاول (ضواغط التحول)

يقدم لنا تاريخ الفن ان المنجز الفني مع زمن الكهف وبذلك فهو اقدم نتاجات التفكير المتقدم عند الانسان، اذا لم تكشف اساليب الرقص (الميثولوجية) التي كانت ترافق التجمعات في الكهف وتم الاستدلال عنها من الرسوم ذاتها، الا ان التشكيل على جدران الكهوف يعد من اقدم ما وصلنا تاريخيا كنتاج يمكن ان نصفه بالبذرة الاولى للفنون، اذ لم يكن في ذهن منتجيه انهم فنانون او ينتجون فعلا فنيا كما هي تحليلاتنا الحديثة.

 فما الضاغط الذي يمكن ان تفرضه هذه الافعال التي انتجها الانسان على جدران الكهف ؟

ان المعرفة التحليلية لهذه النتاجات تحيل الضاغط الى الحاجة والحاجة في زمن هؤلاء يتمثل في الغذاء وصراع البقاء (الماموث وصيد الغزلان) بوصفهما  مصدر غذاء ، وصراع لبقاء يتحول هو الاخر بمتنامي ظواهر الضد التي تجابه الانسان. فرسم واقعة صيد الماموث وصيد الغزلان انطلقت من قناعات اساسها ان في هذا الرسم ما يمكن ان يحقق افتراضية في فعل نجاح عملية الصيد وكأن الرسم على الجدران صورة من صور(التعويذة) التي تساعد على تحقيق الانتصار على الحيوان ، حتى اصبح الرسم حاجة او ضاغط بحاجة كبيرة قياساً الى حياة الانسان آنذاك، وعند التحول في البحث نحو انجازات اكثر تطوراً سنذهب الى تشكيلات المدن الاولى اذ نجد الاواني التي شكلت برسومها ما استدل عليها من فنون بذلك العصر الممثل لفجر السلالات الاولى ،فما الضاغط التحولي المسبب لهذا التحول في الانجازات الفنية؟

 ان الاجابة الافتراضية تؤكد استمرار (التعويذة) لكنها تحولت بحكم التطور و التراكم الحياتي للإنسان من الكهف الى تجمعات البيوت المشكّلة للقرى والمدن الصغيرة الاولى ، وهنا تغير الضاغط بحكم تغير اساليب العيش مما اتاح لتحول حتمي في صور الانتاج والبناء الجمالي. والتحول التاريخي يحيلنا الى عصر الدويلات الكبرى كما هو في بابل واشور وسومر وكما هي عصور وادي النيل المختلفة، ان القراءة التحليلية لنظم البناء الفني تحيلنا الى ضرورة الكشف عن  الضاغط المسبب لمتغيرات التحول للنصوص الفنية الجمالية التي تشكلت في هذه العصور.

واهم صورة تحليلية للتحول في الضاغط يتمثل ب انبثاق السلطات القهرية و الاستبدادية التي اسست ذاتها نحو التقديس تتمثل بالسلطة الحكم المتمثلة ب ( الامبراطور ، الملك ، السلطان) و الدين المتمثلة ب(الكهنة) . لهذا تطورت اجراءات الضاغط من الغذاء بواسطة الصيد الى ضاغط المال ، فتشكلت شخصية ذاك الانسان المنتج للفن الذي نطلق عليه منذ زمن ليس بالبعيد في تاريخ الحضارة بالفنان . انه تساؤل منطقي: هل كان يوصف بذات الصفات التي نصف بها الفنان اليوم ، ام الامر فيه اختلاف؟  

قطعا يختلف فهو بنظرة عامة عامل حاذق صاحب حرفة متميزة بحسب خصوصية نتاجه، ان كان نحاتا او خزافا او رسام جدران.  ونتيجة للحاجات الى دافع المال ( السلطتين الدينية و الحكم ) اشرت حاجاتهما لضاغطين جديدين حركا النتاج الذي نسميه فننا تتمثلان ب ( الاعلام و الابلاغ) كما هو حال الفضائيات والجرائد والمجلات في عصرنا الحالي، و من هنا بدأ الفن يقدم صوراً ابلاغية اعلامية قد يكون مبالغ فيها او غير صحيحة كما ما قدم من مبالغات قي قوة (الدولة او الملك ، الحاكم ، كهنة المعبد)، وبهذا التحول في اساليب الضغط انتج فناً لا يختلف عن الاعلام والاعلان ليقدم سمات تتسم بالقوة والرفاهية والهيمنة.