اخر الاخبار

كنت جالساً في مقهى السنترال وسط عمان، اتفرس وجوه العراقيين الفارين للتو من بغداد، كانوا في الغالب من الكتاب والشعراء والمثقفين، عندما لمحت شخصاً نحيفاً حزيناً في طرف المقهى، قال لي صديق يجلس بجانبي، الا تتذكر هذا الشخص؟ قلت: ملامحه ليست غريبة، ولكن! قال: هذا صاحب اوبريت (ياعشكنا) فصرخت بلهفة: هذا كاظم الرويعي نفسه؟ فنهضت لاستقباله، وافردت ذراعي له فأحتضنني وبكى على كتفي... هذا النص ليس جزءاً من سيرة أو قصة قصيرة، انما هو جانب من مقالة للشاعر والكاتب الراحل جمعة الحلفي عن (كاظم الرويعي) ضمن كتابه (خارج المتن) الذي صدر قبيل اعوام ، ويكمل الحلفي قلت: لاتبك ياكاظم فأنت الآن خارج الجحيم، قال وهو يمسح دموعه بمنديل قديم، لقد خرجت من الجحيم، نعم لكنني وقعت في الزمهرير، قلت له: وانا اودعه عند رصيف من ارصفة الساحة الهاشمية، سنلتقي ما دمنا في المنافي، لم يتم اللقاء المرتجى، اذ مات الرويعي من الحزن كالطير الغريب، يتساءل الحلفي، هل قتل زمهرير الغربة كاظم الرويعي، يقول كنت اتساءل وانا اقرأ رسالة التعزية برحيله، ام قتله الحنين لأبنه الوحيد (تمّام)، لم اترك سؤالا وانا ابحث عبثا عن ذريعة ما، او عن سبب لرحيل ذلك الشاعر الرقيق والنحيف والحزين، الذي لم يترك سوى الألم والاغاني، ويالها من تركة ثقيلة (ينجوم صيرن كلايد)، (سلامات)، (ياعشكنا)، (يم داركم)، (ياسفانه)، (ليلة ويوم)... ياالهي كم تربت ذائقتنا على اغاني كاظم الرويعي، وكم من السهر الجميل كنا نقضيه حتى الفجر، برفقة كلماته الشجية وقصائده التي لاتنسى... بهذا الدفق الحميم النابض بأوتار الحنين، يستذكر الشاعر جمعة الحلفي اصدقاءه المبدعين خاصة ممن قضوا واختطفهم الموت في الغربة إبان الحقبة الدموية للنظام السابق.. لا احسب ان احدا يقرأ هذه المقالة التي تقطر أسى ولوعة عن الرويعي من دون ان يهتز من التأثر، وقد يعود مرارا، ويغمره حزن واس شفيف، ترى أهي مقالة؟ ام سمفونية متوهجة بجمرة الألم والألتياع والشوق، سمفونية توقظ القلب ليهفوا الى اصدقاء رحلوا، واصدقاء اختفوا، الى اوقات دافئة، ووجوه حبيبة، الى قصائد وكتب واشياء مضاعة عذبة، سمفونية اوجزت احزاننا  بأمانة وحرارة وصدق، وذات الشيء نجده في مقالاته الاخرى، المشبوبة بالعاطفة لأن الحلفي مداده عصارة قلبه وهو يكتب عن (عزيز السماوي) و(النواب) وغيرهما، في الجزء الخاص (مبدعون عرفتهم)، ولعلني لا اغالي ان قلت، ان (خارج المتن) للشاعر جمعة الحلفي من الكتب القليلة التي تستوقفنا وتظل مصاحبة لخيالنا، فهو ليس دراسات نقدية، ولا عرضاً لاعمال ادبية، او اراء في السياسة، انه مزيج يرقى فوق ذلك، مقالات مشبعة بسحر التركيب ودفقه.. روعتها متأتية انها تعبر بعفوية وصدق عما تقول، لها جاذبية خاصة لا تتوفر في المقالات التي يتخذ منها الكثير ميداناً للتنظير والتعالم واستعراض الثقافة، الامر مختلف عند الحلفي كون مقالاته نمطاً آخر يشدك سحرها، وبراعة اسلوبها، تذكرني بكتب رائعة اخرى قرأتها قبل اعوام، فيها استذكارات وسمات جمالية عالية، (لوعة الغياب) للروائي عبد الرحمن منيف. و(صبي الاسرار) للشاعر خيري منصور، وبرغم ان الحلفي وزع كتابه (خارج المتن) بين ثلاثة محاور (مقالات – قراءات – مبدعون عرفتهم) الا ان موضوعاته تقترب من السيرة الذاتية، او نوع من الكتابة عن الذات بمرآة الآخر. سيما وان المؤلف قد جمعته مع من تناولتهم عرى الصداقة وحياة المنافي والغربة. وهو يتحدث عنهم بنزوع فنان تشرب بسحر الكتابة، فصب فيها لوعته، وافكاره وافتراضاته، وتصوراته، واسئلته وهواجسه، فحين يفتح صفحات الماضي يتمثلها حاضراً مليئاً بالمشاهد واللقطات الحية، فغدت كلها ممتزجة بثمار تجربته وذائقته الخاصة وخبرته، مسوقاً بهواجس الفنان الذي حول معاناته واغترابه  وتمرده ومواقفه الى قصائد وقصص ومقالات، لان الحلفي جمعة متعدد ومتشعب في مجالات ابداعه، وقد تناول مبدعين تحدث من خلالهم عن نفسه لانه يرى نفسه فيهم، وقد تسنى لي معرفته شخصياً على نحو ما خلال فترة ترؤسه تحرير جريدة الصباح عام 2005 التي كنت اعمل فيها وقتئذ محرراً ثقافياً.. لا يكفي ان اقول انه كان كريم الخلق، هادئاً، حييا، لا يرد حاجة احد، انه اكثر من ذلك كان شاعر حقاً مرهف الحس، مفرط الطيبة، وحدث في الفترة التي كنا نعمل فيها معاً ان حضرت جلسة شعرية اقيمت له، حين راح ينشد اعجبتني قصائده الجميلة المضمخة بمزيج الحب والاسى والحنين، وكان ألقاؤه رائعاً، امام حشد من الحضور، حينها احببته وودت الأقتراب منه اكثر، لكنني أبيت وانا ارى تهافت العديد حوله ممن دابوا على تسويق انفسهم على الدوام من دون حياء امام كل مسؤول، لان الحلفي كان حسن الظن بالجميع ورجلا متسامحا يمنح من دون تردد.. أعود الى كتابه (خارج المتن) اذ نفاجأ حين يخبرنا المؤلف بأشارة على الغلاف، ان هذا الكتاب في حقيقته لا يمثل الا جزءاً صغيراً من بين مئات المقالات والدراسات الموزعة في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ما يجعلنا نطمع في ان نقرأ له كتباً اخرى يجمعها من مقالاته المتناثرة بين الصحف والمجلات، وبرغم ذلك فقد اتحفنا، فهذا الجزء يعد منجزاً مهما لا يخلو من اغراء لما فيه من الخلق الفني، ثم ان مؤلفه دون فيه شهادته عن حقبة سوداء واعوام قاسية حفلت بالحروب والمآسي، الى جانب ما يمثله الكتاب بوصفه سيرة له ـ اي للكاتب ـ ولرهط كبير من مثقفي العراق الذين اضطروا لأستنطاق حبهم للعراق عن بعد على حد وصف الشاعر احمد عبد الحسين الذي كتب مقدمته، فصار يضيء الكثير من الجوانب المجهولة في حياة هذا الاديب او ذاك ممن جمعته واياهم حياة المنفى، كتاب وشعراء عراقيون وعرب، عايش بعضهم الحلفي، وامضى معهم شطراً طويلاً من حياته، امثال مظفر النواب، فؤاد التكرلي ، كاظم الرويعي، هادي العلوي، محمد الماغوط، عبد الرحمن منيف، علي كريم سعيد، عبد الوهاب البياتي، عزيز السماوي، مهدي خوشناو، نبيل سليمان، وما تركه الراحلون من آثار حافلة بالابداع والديمومة، ثمة احساس ينطق بالصدق نستشعره في مقالاته، ثمة انسجام، وعاطفة حقيقية، وحساسية في صياغة المفردة العراقية المحببة المحملة بالايحاءات والخزين الروحي، فهو حين يتحدث عن مظفر النواب يقول (حين يأتي مظفر النواب يأتي الزمرد والجلنار والحناء، تأتي صواني القاسم وشاي العصر وليلة الدخلة، بنت المعيدي، واهل الشريعة، وياتي تموز والأهوار ومواكب كربلاء، تأتي غنيدة وآل زيرج، ثم يأتي الشعر) اما عن صديقه الروائي والناقد السوري نبيل سليمان فيقول: اذا كانت للصداقات نكهتها الخاصة واثرها الذي لا يمحى من الذاكرة فقد كان لصداقتي مع نبيل عبقاً لا يزال يعطر كياني بمشاعر الألفة والصداقة والنبل، ويقول عن عزيز السماوي (عزيز السماوي ليس شاعراً اخر يموت في المنفى- بل نخلة عراقية قتلها عطش الغربة والمنفى، مات عزيز غيلة وكمداً، ومن يعود الى شعره سيتأكد من هذه الحقيقة، فقد كان يكتب شعره بعصارة القلب، وبوجع الغريب المجروح طولاً وعرضاً، لقد اعطى عزيز السماوي للشعر الشعبي العراقي، وهو من ابرز مجدديه نكهة خاصة).. ويمكنني القول ان هذا الكتاب برغم صغر حجمه (160) صفحة لكنه غني بمادته ولوحاته الملونة، وتباين محاوره، ففي محور (مقالات) الخاص بالثقافة والمثقفين يدين المؤلف مظهر الانتهازية واوهام المثقف ويبحث اسباب خساراته وضياع احلامه، فالمثقف العراقي برأيه شكاءً بكاء بامتياز يشكو عدم تقدير المجتمع لدوره ومهابته، لكن قلما سأل المثقف نفسه من المسؤول عن بلوغه هذا المآل التراجيدي؟ احسب ان مقالاته لا تكمن قيمتها في المعلومات التي تحتويها انما في البنية النصية المتقنة لكاتب محترف، يكشف اشياء ويلمح بغيرها، وتحمل مستوى اخر خلف اللغة وراء سطح النص لنرى تلونات السرد بمستويات متفاوتة لما تقتضيه الحاجة الفنية، فعن اصدقائه يروي بلغة شعرية تتدفق ببوح وصدق كبيرين، ونلاحظ في محور (قراءات) عينا راصدة ذواقة تصطاد توهجات الابداع في النص وتتوقف عند تخومه، من هنا زخرت مقالات الكتاب بصور فيوضات الذاكرة، وحلم التغيير مثلما حفلت بالقصص والقصائد الشعبية وصدى الجلسات الليلية واشياء ثرية اخرى غائرة في لغته الانيقة المفعمة بالجمال التي تجذب القارئ وتشده اليها.. ولاغرابة فالكاتب جمعة الحلفي يمتلك ثراء فكرياً وثقافياً قلّب الواقع فكتب عنه شعرياً وروائياً وثقافياً وسياسياً.

عرض مقالات: