اخر الاخبار

عندما فرغت من قراءة رواية “ظهر السمكة” لحميد قاسم لم افق من حالة الذهول التي رافقتني طيلة الوقت الذي استغرقته القراءة ‏وبنفس واحد كمن يلهث وراء حدث يتمنى ان ينتهي بخير ولكن بنفس الوقت بشعور من يتمنى اطالة الوقت كي لا تنفد المتعة، ولكن حميد قاسم أبى الا ان ينهي كل ذلك برشاقة الروائي العارف اين يترك المتلقي في ذهوله بعد ان قطع مسافة المئة وتسعة ‏عشر صفحة من السرد، وهو عمر الرواية بين يدي القاري، ولكنها عمر يمتد لسنوات من الاحداث التي رسمت تفاصيل حقبة ‏مؤلمة من تاريخ العراق والتاريخ الشخصي والجمعي للجيل الذي عاش زمن الرواية والاجيال اللاحقة التي حصدت النتائج ‏الكارثية لما حدث‎.‎

اختار حميد قاسم لغة امتزج فيها السرد بالشعر باللغة اليومية البسيطة دون اي تكلف او تنميق، هي ذاتها لغته ومفرداته التي تسمع ‏نبرتها اثناء القراءة وكأنه يقص عليك حكاية حفظها واعادها مئات المرات وكأني أتخيله جالسا امامي وهو يقص تلك الحكاية ‏الغرائبية عن جنود وجدوا انفسهم اداة في محرقة لا طائل منها وليس لهم خيارات غير الموت ولكن بطرق مختلفة فأما صريعا في ‏الحرب وأما معدوما رميا بالرصاص ان رفض او تغيب‎.‎

تبدأ الرواية من خلال مدخل مدهش حول اصرارا الكاتب ان يؤلف رواية استغلالا لوقت الفراغ الهائل بسبب (العزلة الكونية) من ‏جراء الوباء الذي عطل العالم (- ماذا افعل؟ فأنا مصمم على كتابة رواية، رواية مثيرة، وليس لي سوى كتابتها بالطريقة التي ‏اعرفها...... ص 10)‏

وجاء الحافز الذي انطلق منه لتصلنا رواية مختلفة عما خطط لها منذ البداية، عندما جيء بصديق الطفولة ملفوفا بعلم حيث ظلت ‏هذه الذكرى عالقة تأبى مغادرته‎. ‎

انها اوراق من مذكرات كتبها جندي عاش مرارة الحرب والشوق للزوجة والابن والعائلة والاصدقاء، للاماكن، للطرق، للتفاصيل ‏اليومية الصغيرة، لمن غادرونا شهداء ومغدورون ومنفيون‎.‎

لقد استوقفني طويلا مقطعان استدعى فيهما حميد قاسم كل طاقته الابداعية واللغوية اولهما (ذبابة الحدود) التي تصف مقدار ‏الضياع واللاجدوى من الوجود والعيش عندما ينحصر الكون كله في متابعة ذبابة تقف على سبطانة البندقية ولا تريد مغادرتها قبل ‏ان يأتي سؤالها: (تململت ببطء فيما كانت تحرك رأسها يمينا ويسارا، وخطر لي انها ربما تساءلت وهي تحدق فيّ باستغراب: ما ‏بال هذا الكائن الابله وما الذي يفعله في هذا المكان؟) ص 28‏‎.‎

اما الثاني فهو ما ورد في الصفحة 45 بعنوان “رسالة حب”، حيث يستدعي هذا الجندي الملقى والمنسيّ في هذه البقعة النائية من ‏الكون والتي تخلو من اية شيء يُذكِر بالحياة الطبيعية لإنسان من هذا لعصر وسط هطول لا يهدأ للمطر ووسط الموت المتربص ‏في اي لحظة بأرواح تتوق الى الحياة ولكن لا سبيل اليها، يستدعي حبيبته في نص مفرط الروعة ببساطته وعمقه ( لا استطيع ان ‏اجد تفسيرا مقنعا لوجدك هنا، انت الرقيقة مثل زهرة برية بين هذه المواضع الملأى بالصفائح المضلعة والمقوسة، والجنود، ‏والخوذ، والقذائف، والدخان، والعتاد، في هذه البرية الفسيحة المسورة من جهة الشرق بالتلال وقلوب الامهات، أمهاتنا نحن الجنود، ‏حيث تبث الانفجارات المدوية بين لحظة واخرى، لتنهال شظاياها على السقوف المعدنية برنين يظل يخشخش لثوان، وهي تهبط ‏مثل نيازك صغيرة متوهجة مضيئة ومزججة في ظلمة اماس حالكة العتمة‎. ‎

كل هذا... وانت هنا، ولا احد ممن هم هنا، بوسعه ان يستدل عليك سواي ... انا وحدي، بل اني اكاد استنشق عطرك، اكاد ‏ان اسمع هفهفة ثوبك، وهسيس الاعشاب المحترقة تحت قدميك الحافيتين، وحينها اهم- وانا ارفع رأسي وازيح البطانية. ان امد ‏يدي اليك متشبثا بالذكريات هامسا‎:‎‎- ‎كنت اخشى على محبتنا‎.‎

‎- ‎اش اش اش .. لربما يستيقظ احدهم‎!‎

وحين تهيم يداي في الفراغ بلا جدوى، كنت احزن قليلا، ولربما لأقل من ثانية، مطمئناً نفسي انك ستعودين بعد دقيقة واحدة لا ‏أكثر‎)

ان التقطيع في الرواية منح كل من الراوي والقارئ فسحة للتركيز على الاحداث سواء في تتابعها الزمني او مغزى وجودها في هذا ‏السياق بالذات من السرد بحيث تتيح للقارئ ان يعود اليها للاستمتاع اكثر باللغة والحدث والمعنى، حيث ان كل مقطع يُبدع فيه ‏المؤلف في الموضوع والطريقة والابهار‎.‎

استطاع الروائي ومن دون ان يُثقل الروايةـ على قصرها- ان يذكر– او يخلد ذكرى- اسماء اشخاصا واصدقاء حقيقيين عاش معهم – ‏وعشنا معهم- وتقاسم معهم اعوام من العشرة والاحداث وصناعة تاريخ تلك الحقبة، بعضهم رحل عنا مستشهدا مخلفا ذكرى لا ‏تنسى في قلوب ووجدان اصدقائهم وبعضهم نجا بأعجوبة من الموت في اللحظات الاخيرة، وبعضهم غادر وطنا كان يعشق الموت ‏فيه، والبعض الآخر ما زال يرزح تحت وطأة الخذلان وضياع السنين في تجرية مُنحت الكثير ولن نجن منها سوى الخراب. وما ‏استعارة نص من حرائق الذاكرة لخضر عبد الرحيم سوى براعة كاتب محترف وعرفانا لصمود ونقاء اعز الاصدقاء‎.‎

“ظهر السمكة” بعنوانها المثير هذا، رواية اختزلت تاريخ الانسان منذ الخطيئة الاولى حتى الخراب الأخيروالصعود الى (ظهر السمكة) ‏تلك البقعة التي وفرت الانقاذ من الطوفان مثلما كانت سببا لتطوي حياة 28 جنديا كانوا بالأمس اعداء يقصفون بعضهم ووجدوا ‏انفسهم في رفقة لم يرتضيها من اشعلوا حربا رعناء وقودها شعبين لا عداوة بينهما بل قد يكون لديهما ملايين الاشياء المشتركة ‏اقلها انهم يقرأون جلال الدين الرومي ولوركا كل بلغته، وليكون الراوي هو الناجي الوحيد ليقص علينا رحلته في تلك البقعة ‏المنسية من الوجود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب عراقي يقيم في مالمو/السويد

عرض مقالات: