اخر الاخبار

في الأساطير أن تموز هو إله الخصب والنماء والحياة. وبهذه المعاني وظّف شعراؤنا الكبار السياب والبياتي وعبد الصبور وأدونيس وغيرهم هذا الرمز بوصفه عنصراً فنيّاً رائعاً في أجمل قصائدهم وأكثرها خلودا وبقاءً في ذاكرة الشعوب وفي السجّل الأدبي الخالد. في قصائدهم يأتي هذا الإله ليحيي الأرض بعد بوارها وموتها ليسقيها بدمه فتنبعث فيها الحياة من جديد. وفي كل موسم عندما تحل المجاعة وتبور الحقول وتجف المياه، فيأتي تموز لينقذهم وينقذ أراضيهم ومحاصيلهم من الموت فتدب الحياة من جديد في العروق والأجساد والسواقي وترتفع السنابل والمحاصيل وتعم الخضرة والفرحة وينتشر الربيع. لكن دائما كان تموز العظيم هذا عرضةً للقتل والذبح من قبل أعداء الحياة. في السياسة تموزنا أيضا كان وما زال مطارداً من قبل شبح لا يصعب علينا تسميته وتحديد هويته. فحين انتصر عام 1958 في ثورة جبارة وضعت حدا للظلم وللارتباط بالأجنبي والتعارض مع مصالح البلاد والشعب وجاءت لتنتصر للفقراء وتبني لهم المدن وتمنحهم السلطة على أراضيهم وحقولهم ومنحت المواطنين الحرية بمختلف معانيها وحققت إنجازات كبيرة مصيرية واستراتيجية من تأميم النفط وقانون الإصلاح الزراعي والمباشرة في حل القضية الكردية وغيرها من إنجازات جاءت الرياح المعاكسة لتطيح بكل هذه الإنجازات وتوقف عجلة التطور والتقدم بل وتعود بنا إلى ما هو أسوأ من المربع الأول. ومع كل هذا لم يجرؤ أحد من الأنظمة السابقة التي توصف بالرجعية والقمعية والديكتاتورية ولا حكّامها على إيقاف الاحتفال في ذكرى هذه الثورة الكبرى حيث ظل شعبنا وقواه الوطنية والتقدمية والديمقراطية تحتفل سنويا بهذه المناسبة وتقيم الفعاليات المتنوعة تكريما لها ولإنجازاتها التاريخية وسجلت في تاريخنا الحديث على أنها الحدث الاستراتيجي الأكبر في النصف الثاني من القرن العشرين من تأريخ العراق. لكن هذا لا يعني أن تموزنا قد سلم من محاولات الاحتواء وسلبه معانيه ومنجزاته ومكانته التاريخية وصولا إلى تحويله إلى ذكرى لإله ميّت لا حول له ولا قوة. إلا أنهم في الحقيقة لم يتمكنوا لأن التاريخ الحقيقي أقوى وأكبر وأشد وقعاً منهم جميعا. واليوم تأتي السلطات التي رسخت المحاصصة الطائفية والعنصرية نهجا ثابتا في المشهد السياسي والفساد علامة بارزة في الحياة العامة شمولا لكل مفاصل الدولة والقطاعات والمؤسسات لتمرر قانونا يلغي اعتبار 14 تموز عيدا وطنيا وبالتالي ألغيت بموجبه العطلة وستلغى ربما في قرارات لاحقة الاحتفالات في هذه المناسبة إذا لم تحرّم وتمنع بقانون. هذا القانون وفي هذا المفصل بالذات والذي تم فيه التجاوز على مكانة ثورة تموز المجيدة يعد بحق خطوة مناهضة لمشاعر الشعب وعدم اكتراث لتاريخ العراق ولا لما تحقق على يد هذه الثورة الكبيرة. إن الأنظمة التي لا ترعى مكانة تاريخ بلادها وشعبها تحكم على نفسها بالعزلة أكثر مما هي عليه الآن. وتحكم على نفسها وأدائها بالفشل فوق مما هي عليه من فشل ذريع على الأصعدة كافة.

يحق لشعبنا مواصلة الاحتفال بثورته الخالدة والاعتزاز بوقعها المتميز في مسيرته النضالية ولن تتمكن أية قوانين أو قرارات من قطع جذور التاريخ المشرف من أراضي العراق لأنها جذور عريقة ضاربة في أعماق الواقع والعقول.

عرض مقالات: