اخر الاخبار

في مكتبة المدى، بشارع المتنبي، مررتُ بوجوه المشاهير، مثبتةً على الجدار العتيق، كتّاباً ورسامين وسواهم، تفرستُ في بعض منها وأنا اصعد الدرجات الأسمنتية المتآكلة، وصولاً لرفوف الكتب المكتظة بتنسيق عال. قرب الموظف المسؤول عن مساعدة الزبائن، لمحتها هي، الكاتبة المشهورة، ذات القوام الممشوق والشعر الطويل، بدت ملفتة بكنزتها الصوفية ذات اللون الوردي الغامق، وبنطلونها الجينز الضيق الآخذ بالإتساع قرب الساق.

إنها موضة حديثة لم أحبها يوماً. كما في الصور تماماً، ملامحها جادة، بذلك الأنف المستقيم، والخدين الضامرين، ونبرة صوتها النرجسية. استطعتُ أن أراها بوضوح من مكاني بين رف كتب محمود درويش، ورف كتب ادونيس، حيث كانت تشرح للموظف شيئاً ما.

بدا الموظف مهتماً كثيراً بحديثها، شكل عينيه الجذلتين، بات ملفتاً،  وهو يصغي بابتسامة منبهرة إلى صوتها وهي تتحدث إليه والكتاب في يدها. تناولتُ ( أثر الفراشة) من على الرفّ، وبدأتُ بمطاردة الكلمات. جزء مني كان يراقبُ الكاتبةَ الشهيرة، وآخر في أثر فراشة درويش، فيما كنتُ أتحسس بأطراف أصابعي روايتي الأولى في حقيبتي اليدوية. بعد أن تُنهي الكاتبة صفقتها مع موظف المكتبة سأذهب اليه لأُريه ما بحوزتي من كتاب، قالت عنه أمي أنه علامة فارقة، وأنا أثق بكلام أمي، فهي مثقفة، قرأتْ جميع كتب جرجي زيدان في مكتبتنا، حتى أنها اقترحت عليّ تغيير عنوان الرواية من (الحلم الأخير) الى ( آخر الأحلام). خرج الموظف من مكانه خلف مكتبه الصغير، وسار مع الروائية إلى مكانٍ ما، كانت تشرح له كيف يضع كتابها في المكان الذي اختارته تماماً، حيث يكون في  مرمى أنظار الداخلين للمكتبة.  وضع الموظف كتابها  بتؤدة وأناة، كما يتم وضع الأحجار الثمينة في تيجان الملوك، وما إن استقر الكتاب هناك، حتى ابتسمت الكاتبة برضىً، وفخر، للكتاب وللموظف، ثم غادرت دون أن تلتفت لأحدٍ أو شيءٍ ما، لكنها قبل أن تغادر، وفي اللحظة الأخيرة قالت للموظف بصوت هادئ لكنه مسموع: ثمانية آلاف.

عرفتُ فوراً أنه سعر كتابها المقترح.

دون تردد، وبرغبة مبهمة، ذهبتُ فوراً لرؤية كتابها في مكانه الذي اختارته بعناية. كان الكتاب بارزاً  هناك بعنوانه الذي بات يتردد مؤخراً على الألسنة. فكرتُ في(آخر الأحلام) بقلب حقيبتي، وفي أنسب العبارات التي سأقولها للموظف وأنا أريه كتابي الأول، ثم بعد فترة سيتصل بي حتماً، لأزوّده بالمزيد من النُسخ.  لم يكن روّاد المكتبة كثيرين في تلك الساعة المبكرة من نهار يوم الجمعة، إنها الساعة التي أُحب، حيث جولتي بين الرفوف المثقلة بالعناوين والضاجة بحياة خفية .

ظن الموظف عندما وقفتُ قريباً منه أنني مجرد زبونة، كدتُ أقول له: “تباً..أنا كاتبة، ألا يبدو هذا واضحاً؟! انظر لملامحي العميقة! ألم تنتبه لعينيّ اللتين أتعبهما سهر القراءة والكتابة حتى استحال التعبُ بريقاً! أنت شخص غبي” لكنني لم أقل سوى: “لا أحتاج لأي كتاب .. شكراً، أنا مؤلفة..انظر” أريته كتابي بعد أن سحبته بسرعة من الحقيبة.

كان الكتاب في يدي، وقد وقعت عليه حزمة أشعة نفذت من شبّاك المكتبة، بدا وحيداً جداً مثل شخص فاته القطار، لم يلتفت الموظف ناحيتي ليشاهده في يدي مثل علمٍ بيد جندي يقاوم الهزيمة. ظل ينقر على أزرار الحاسوب أمامه وهو يخبرني بصوتٍ خالٍ من أي انفعال: “ اسف ست .. هليام موقفين التعاملات مع الكتّاب”.  “تقصد الكتاب المغمورين”؟! لم أستطع قولها، شيء ما في حلقي حال دون النطق بها.  “لن أعود الى هنا” هذا هو قراري، تعساً للكفاح من أجل الأحلام. لكن لابأس بجولةٍ أخيرة، ستكون شبيهة بوداع موشّى بالهزيمة.

وقفتُ أمام تلك العارضة ذات المكان المميز، المكان الذي اختارته الكاتبة، وما أن مددتُ يدي نحو كتابها حتى سمعتُ تلك الضجة التي أربكتني، ضجة انهيار الكتب وسقوطها على الأرض كما لو كانت لوحة سريالية بتلك الألوان المتفاوتة والعناوين الشاخصة كأنها أعيُن معاتِبة.

نزلتُ فوراً إلى الأرض لأحمل الكتب التي بدت لي كأنها تستغيث. كدت أبتسم للفكرة لولا وجود الموظف الشاب الذي سارع هو الآخر لحمل الكتب وإعادة صفّها. كنتُ محرجةً جداً، متفاديةً النظر إلى وجهه. لم أكترث لطلبه لي أن أترك له وحده مهمة رفع الكتب وتنظيمها.

 تذكرتُ أن في الحياة كما في الروايات لاشيء بلا مغزىً، سقوط الكتب مثلاً واختلال الأمكنة.  وفي تلك اللحظات الهامة علينا أن نكون أذكياء كفاية.

استغرق ترتيب الكتب وقتاً، لم نتبادل فيه الحديث أنا والموظف الشاب أبداً، كنا منهمكين، ومرتاحين أخيراً أننا أعدنا الكتب الى الرفوف. بدا كلّ شيء كما كان، عدا أن عنواناً جديداً

برز من بين العناوين، لأنه صار في الوسط تماماً، وستقلّبه أيادٍ كثيرة اليوم.

عاد الموظف الى مكتبه الصغير وإلى الزبائن الذين بدأوا يتوافدون، فيما عدت بضع خطوات  إلى الوراء لتأمل الكتاب الجديد في مكانه بالمنتصف، كأنه القلب من الجسد.

ثمة شعور بالرضا والسلام بات يغمرني، وأنا أهمُّ بالمغادرة، لكني قبل أن اخطو خارجاً

حملتُ روايتيْ الكاتبة إلى مكانٍ قصيٍّ وآمن حيث لن تقع على الأرض مجدداً.

قرب الباب وأنا خارجة، نظرت الى نفسي في المرآة الطويلة بمقدمة المكتبة كما في كلّ مرة قبل أن أغادر، عدلت من وضع كنزتي الوردية الغامقة وأرجعت بعض خصلات شعري الطويل للوراء، ثم نزلتُ بخفة عبر الدرجات الإسمنتية القديمة حيث تخففتُ أخيراً من ثقل كتابي” آخر الأحلام”.

عرض مقالات: