اخر الاخبار

عشرون عاماً على غيابك الدموي، عشرون عاماً ثقال وكئيبات وبملامح وحشية بدأت من قتلك الوحشي وأكثر رعباً منه إذا ما قرأناها على ضوء مصباح فكرتك وعلى إيقاعها الإنساني شديد التناغم.

في أوراقك المتأخرة (قبيل اغتيالك بأسابيع) تكتب “شهادة المنفي داخل الوطن” وفيها تستعيد “كيف كانت القراءة بابـك إلى وهج الوعي وكيف كـانـت أيـام ثورة 14 تموز 1958 شعلة الوعي فيك. من كان يتخيل أن ذلك سيكون ذنبأ بـل خطيئة تستحق السجن والعزل؟ ومن قــــال إن الحلم الجميل سيكون دليلاً حرفيا على كابوس لكنه حدث، حين قادك البعثيون إلى السجن فتيا تحتشد في صدرك الأحلام ومشروعات تأتلق فيها مدارس وبـيوت جميلة تزدان بـثمار من الفن وعلوم تيسر للإنسـان حـياته” وكأنك تطلق النذير من ثنائية غير متكافئة بل غير عادلة: الفكرة أدباً وفناً وعلما مقابل الطغيان السياسي والتوحش الاجتماعي المرتبط به. وهنا لا تغيير في المعادلة الظالمة ذاتها، فما سعيت إليه، طوال حياتك، وما عانيت من أجله يبدو اليوم أكثر هشاشة حيال قوى التغول السلطوي الباطش التي صارت اليد العليا وصاحبة الكلمة الآمرة المطلقة، حتى أن الرصاص الذي قتلك فتك بالعشرات بل المئات من الحالمين مثلك.

هرولة القطيع الصاخب

تقول بما هو آسى ولوعة “كان عليك فيما بعد أن تعاني العزل عن كل ما تستحـق أو ما تؤهلك إليه قـدراتك .. عزل بـين محطتي سـجن وعزل بعدهما! تتفوق في الدراسـة فلا تجد موقعك الذي يحق للمتفوقين أن يبلغوه، وتبدع في عملك فلا تتقدم إلى مراكز التأثير، فأنت لم تستسلم لهرولة القطيع الصاخب”. ثق أن لا شيء تغير في جوهره، فمن طوقـوك بعيونهم وقـواعد محرماتهم، وكان سهلاً ان يقبروك، تناسلوا بعناوين مختلفة ورايات أخرى لكن المعاني السود التي قتلتك ظلت كما هي بل انتعشت وامتدت إلى حقول غير التي عرفت وعبرت في رحلتك، بل أن “القطيع الصاخب” هو صاحب الكلمة العليا واليد الطولى اليوم بل هو الأكثر فتكاً مما عرفت وخبرت، كما أن المهرولين نحو القطيع باتوا أكثر شراسة وقسوة وإذا كنت “تزداد معرفة وهـم يوغلـون تجهيـلا و تعمل باذلأ سخيا للجهد العقـلي كـي تـكـون معرفتـك كلمـة هادية أو خطـة عمـل مـنـتـج، وهـم يحتضنـون الذين يعملون وعيونهـم على منفعة يقبضونها” فالأمر ذاته يتكرس نهج حياة اليوم، فالجهل يتقدم وينال الكثير ويتسيد كل مشهد فيما يعود على أصحابه بكثير من المنافع.

وإذا كنت يا أخي وصديقي ومعلّمي توغل مضياً إلى ليل غربـتك ولقـد اخترتها شرفاً وموقفا واستأنسـت بغربـاء عظام سبقوك على طريق الأشواك، بل وكنت تنتشل نفسك بفدائية من هرج المنافع ضمن ما كنت تصفها “قـاعدة المنفى داخل الوطن” فأخبرك اليوم أن الحزن يترسـب في القـلب فالوطن يغادر مبتعداً عما حـلمت له ولأهله مـن حـيـاة بـل قـل يغرق في بحر مفاجآت، وإذا كان الموج كان يلقي بـك بـين هذه النوبــة أو تلك من نـوبـــات الاضطراب، فهو اليوم تضاعف علواً وبطشا، فأما أن تغمس القـلـم بــــدم النفاق والمنافع وأما أن تصمت، أما مجد الرافضين الناطقين فلم يعد سوى سباحة يائسة ضد التيار، و”عرس الكذب” الذي كنت تقول عنه “مقاماً في الساحات والمكاتب والإعلام” ازداد بريقاً ونشوة وصخبا.

القبض على الجمر

كنت تتساءل مع نفسك “أمكابرة ترسخت فيك عبر الصبر والقبض على جمر العزل والحرمان أم إيمانا تجذر في الروح والقـلـب بـان الغد قادم بمعول يهدم ما شادوا من قيم الظلم والعنف والاضطهاد”، وهو كما عرفتك وخبرتك كان إيماناً عميقاً بغدٍ تستحقه البلاد وأهلها، ولكن ما كنت تخشاه لم يعد موضوع المتهامسـين فقد صار اللصوص والقتلة قادة البلاد وسادتها وأنت- ســامحك الله – كنت متشبثاً بخشبـة الحلم بـدنيا نظيفة ومدينة جميلة وكنت، بين مكابر أو مؤمن، بقيت تردد يا للأحلام من مهنة شاقة، وهي لكذلك فعلاً في بلاد الكوابيس، فجزعك ثقافياً من “الشعر يدق طبـوله للقائد الظافر والشجرة الطاهرة التي تزهر بمن حوله! والكتاب يبحثون في غرائبه وحروبه وقتلاه ليأتونا بامجاد تعليه على البشـر” ليتحول إلى كابوس حقيقي فأولئك الذي دقوا طبول الشعر للقائد يتقدمون المؤسسات والمنظمات الثقافية اليوم بل صار بعضهم رمزاً للوطنية والإباء! فكيـف كـنـت تصدق إنك والقـلة الذين تأوي إليهم بهمومك الجريحة على صواب لتستمر قابـضا على جمر العزلة مقيما على شـوك المكابـرة؟

وتعود للسؤال الجارح “أفليس هو المنفى داخل الوطن”؟ ورجال سلطة الإرهاب   البعثي الذين تصفهم “ركبـوا الحصار حصانا يغيرون بـه على الناس تجويعا وإذلالا وابــتزازاً” وجدوا في سلطة الفساد المطلق اليوم أخوة لهم ركبوا المقدسات الوطنية والدينية ليغيروا على الناس ترويعاً وعلى البلاد نهباً وعلى معاني الخير والعدل والجمال قتلاً مروّعا وازداد ركب المنتفعين منهم ازدحاماً وامتدادا.

صمتك منفى وكتابـتك مشيٌ في حقـل ألغام

إذا كان هناك في أيام السلطة الفاشية البعثية واقع ثقافي وسياسي تصفه على النحو التالي “موكب مزدحم بالمناكب والأقـدام، وكل تتعلق عيونه بكيس السلطان فيما أنت منفيٌّ منفي إلى ما هو أشـد غـربـة من منفى أخيك وأصدقائك .. صمتك منفى وكتابـتك مشيٌ في حقـل ألغام” فثمة اليوم بعد 20 عاماً على اغتيالك من ذهب إلى المسار الذي كنت فيه ذاته: الصمت حيال وقائع يبدو الانشغال فيه عبوراً يائساً لحقول من الألغام التي تختطف العراق من أهله وتلقـي بـنـا في مهاوي التمزق ودهاليز المخاوف فنلوذ بأوراقـنـا تارة وبيأسنا وهو ينهش براعم الحياة فينا.

عرض مقالات: