“ريش” عرض رقص جديد قُدم مساء أمس الأول الجمعة في مركز محمود درويش بمدينة الناصرة الفلسطينية.
عن هذا العرض كتب حازم كمال الدين
من بروكسل:
إنّها حيرة. ماذا نقول عمّا يحدث لنا الآن؟ ألا ينبغي أن نشير إليه كي لا يبدو عرض “ريش!” وكأنّنا في حالةٍ من حالات الترف؟ ريشٌ طارَ يطير. طائرٌ بريش يطير. وطائرٌ بريش لا يطير. ريشٌ يتطاير. ريشٌ بألوان الهدهد والطاووس يدفن السماء، هشًّا لا يقوى على الهبوط، صلبًا فولاذيًّا يفلت من الأجنحة ويطير ولا يطير، تذروه الرياح فلا يطير. طائرٌ معدنيّ بلا ريش يطير، ينقضّ، ثم يطير. هل ما زال الريش مجازًا للطيران؟ ربّما الأقدام هي التي تطير؟ ربّما نحن جميعًا نطير والأرض أضحت نائية؟! ربّما نطير إلى جوف الأرض؟ والريش؟ سمادٌ للأرض، أم لقاءٌ مع السماء، أم وقودٌ للنار، أم تراه حشوة للوسائد؟ حريّة؟ .. عبوديّة؟ .. غفوة؟ .. يقظة؟ .. ريش! .. ريش! .. ريش
***
يجسّد عرض الرقص الجديد “ريش!” لشادن أبو العسل حالة حب بين اثنين تحت سقف واحد. أحدهما لا يعي أنّه يستعبد نفسه خدمةً للآخر، إلّا عندما تدبّ حياةٌ في كائنات تقوده إلى تحدّي السقف الواحد والجدران والأبواب والنوافذ، ومن ثم إلى تعلّم الطيران، كي يواجهنا سؤال قلّما نجرؤ على التفكير به: هل المنزل موطن للأمان أم زنزانة للاستلاب؟ هل مفهومنا الشائع عن المنزل بداهةٌ لا تتزعزع؟ من يتذكر كورونا إذْ كشفت لنا في الأوقات العصيبة أنّ المنزل ليس أكثر من بئر مظلم طافح بالكوابيس؟ ذلك كان أمانًا كثيرًا ما سعينا إليه، وكثيرًا ما استحال سجنًا لأحلامنا.
في اللحظة الحاضرة التي يتشكل فيها وعينا من جديد نكتشف أنّنا لا نعرف إلى أي مدى نحن أحرارٌ، لا نعرف هل يمكننا الوصول لمرحلة ننعتق فيها من براثن تلك السلطة الماحقة. نحن لا نعرف، لكنّنا نسأل آخذين في الحسبان أنّ غالبية البشر يهتمون بالحقيقة، عندما تدعم حاجاتهم وتتوافق مع أفكارهم وقناعاتهم، لكنهم يتنكّرون للحقيقة لحظة تعارضها مع مصالحهم وآرائهم، ولعلّهم يزوّرونها من وقت لآخر.
***
في عرض “ريش!) تخوض أبو العسل مغامرة جسدية مركبّة، وتعمّق بحثها المعروف في الرقص عبر مزج الرقص مع الحركة المسرحية، فتضيف مفهوم الشخصية (المسرحية) على حركة الرقص.
في هذا العرض الحركي حكاية لا تسردها الحركة، إنّما تتركها أبو العسل كي تتطاير في الفضاء. تعال معنا وتمعّن بالحكاية. تمعّن بها جيّدًا. كائنٌ مدمنٌ على الطاعة. كائنٌ مدمنٌ على الحكمة. ثالثٌ مدمنٌ على السلطة يؤجّجه غضبٌ عاتٍ إذا خالف أحدٌ طبائع إدمانه.. وكائنٌ رابعٌ مدمنٌ على أن يكون دميةً تبعث فينا صورًا من الطفولة شبيهة بدمية باربي التي لا تجيد سوى الاستلاب.
هل تدبّ حياة في الدمية وتغادر وجر الاستلاب؟
يمزج عرض “ريش!” أساليب الرقص مع الأساليب الحركية المسرحية ويخلق لغة أخرى بعناصر يمكن للمشاهد أن يتعرّف عليها ويربطها في حياتنا اليومية رغم أنّها عناصر تنتمي للغة الحدس؛ لغة الرقص المعاصر .. نعم، (ريش!) تتجذّر في هذه اللغة!
لكن عرض “ريش!” ليس تراجيديًّا كما يتبادر للذهن. فكثيرًا ما سنضحك ونستحضر نيتشه الذي ربط الفلسفة بالضحك يوم وضع ترتيبًا لمنزلة الفلسفة: “كلٌّ بحسب المكانة التي يحتلها الضحك لديه”. وكثيرًا ما سيحفزنا أمبرتو إيكو بقوله “إنّ كنيسة القرون الوسطى كانت تحرّم الضحك، لأنّ الضحك يحرّر الإنسان من الخوف.”
للضحك في “ريش!” حضور محوري: سخرية، كاريكاتور، مفارقة، مهزلة.... وشرّ البلية ما يضحك!
يشترك في هذا العرض راقصات وممثلات وممثل ومؤلف موسيقي وسينوغراف ودراماتورغ، وبالطبع قبل ذلك وبعده صاحبة الكونسبت والكوريوغرافي شادن أبو العسل. حضر هؤلاء من كل المدن لصناعة “ريش!”: من الناصرة شادن أبو العسل، وعنان أبو جابر. من القدس سعيد مراد، وعشتار معلّم. من حيفا ماشا سمعان. من شفا عمرو هيا خورية. ومن العراق وبلجيكا حازم كمال الدين.
عن هذه التجربة قلت في حوار أجري معي:
هذه تجربة جديدة على صعيد العمل عن بعد، والشغل كدراماتورغ في مجال الرقص المعاصر، بينما أنا مختص بمسرح الحركة وما بعد الدراما.
الجديد أيضا هو سعيي الدائم للغوص تحت جلد فنانين من عالم آخر، أتوهم أني أعرفهم لكنى أكتشف أن الأمر ليس كذلك. هكذا تخونني ملكات الفراسة، فأتوّهم ثانية أنني أعرفهم فتتكرر خيانة الفراسة نفسها بشكل آخر.. وهكذا كان؛ تكرار خياناتٍ يفضي ذات لحظة إلى الحب!
إنها تجربة ممتعة ومعقدة!
متعتها أننا اشتغلنا بحب، الكوريوغراف شادن وأنا على الدراماتورغيا، وتطوّر شغلنا لنصبح نحن الاثنين سينوغراف العرض ولآخذ على عاتقي جزءا من البروموشن.
لكن التعقيد نجم عن العمل “أونلاين” – هم جميعا في الناصرة وأنا من بروكسل.
رغم التطور التكنولوجي لم يصلني الصوت واضحا أحيانا! وصادف أن انقطع الإنترنت أكثر من مرة!!! أحيانا لم يستوعب كادر الكاميرا فضاء الخشبة ما اضطرني لطلب الإعادة وتغيير زاوية الكاميرا. ولبضع مرات انقلبت وضعية الكاميرا من المصدر وتغيّرت أبعاد الحركة من الأفقية للعمودية. تمنّيت أن أكون في صالة البروفات، أمدّ يدي وأصافح المشتركين في العمل. لديّ صعوبة في تقبّل صداقة افتراضية وهي في نفس الوقت صداقة عميقة.
وهنا أيضا كلمة للسيدة نيفين أبو رحمون، رئيسة جمعية “ المدينة للثقافة والفنون” التي تعمل من خلالها فرقة شادن للرقص المعاصر، في مناسبة العرض الافتتاحي للعمل الراقص “ ريش”:
هو الفن متنفّس حقيقي ما بين الألم والأمل. مشهديّة عرض ريش تجسّد حالة التحرّر الشّخصي من العبوديّة ومن فعل السلطوية . التحرّر كقيمة فردانيّة وأجمل ما في الإنسان اصراره الدائم على السعي المستمر من أجل التحرّر. تحرّر الجسد، الروح، الفكر، والكثير الكثير مما يثقل على روحه . وهكذا نحن ايضا أبناء وبنات هذه الارض متعطشون ومتعطشات إلى فعل التحرّر المجتمعي اولا والوطني ثانيا. وهذا سيكون فقط إذا كنا نحن محرّرين من قوالب أجساد وأرواح صُنعت لكبتنا ولتقييدنا. عرض ريش هو اضاءة على شكل التحرّر الذاتي وان في فعله صناعة حياة جديدة. حرصت شادن ابو العسل على صناعة فن صاحب هُويّة يحاكي الواقع الإنساني والفلسطيني. وهذه المقاربة بين الفن والواقع هي أمر هام حين يتحوّل الفن إلى فعل توعوي ويجسّد حاضنة مجتمعيّة لكل الآمنا وآهاتنا، خصوصا في هذه المرحلة الصّعبة والتي مورست فيها علينا كلّ سياسات تكميم الأفواه، وياتي الفن ويرافقنا نحو حالة الابداع التحرّري الذي يجسد واقعنا ويترك أثرا جميلا في ارواحنا. نجلس اليوم كحالة جماعيّة نمارس فيها أجمل صور وجداننا الإنساني، فيها تلاقي روحي جميل مع الفن والرّقص والموسيقى. ولعل الايام القادمة تكون افضل وأقرب لشعبنا من التحرّر ولغزّة الحبيبة كل التحيات والأمنيات في خلاصها من عبوديّة المستعمر. شكرا لكم /نّ على أمل اللّقاء القريب في عروضات فنية اخرى.