اخر الاخبار

لم تعد الرواية بشكلها الحالي ، الفسحة التي يعكس فيها الكاتب ما يدور في ذهنه ليقول الأشياء التي تمور في رأسه ، بل صارت جنساً ادبياً مهماً لتحليل الحدث الذي يفترضه الروائي ويتلقفه من بعده المتلقي الذي يحلل هو الآخر بطريقته . اذن هي رواية حدث تحوي صراعاً واضحاً بين مكوناتها ما يجعلها تتميز سردياً بانها اهم ما يتمسك به القاريء المتيقظ المكتشف. فكانت افضل من يرسم لوحة متكاملة للبيئة التي تحوي تلك الصراعات في الواقع .

ويعد الصراع في  الرواية من اهم العناصر في بناء السرد ورسم تفاصيله والذي سيكون هو الواجهة الحقيقية التي تعكس الخطاب السردي بشكله الواضح .

وينتج الصراع في الرواية نوعا من المفارقة واستبطان دواخل الشخصيات التي لا تعدو كونها عناصر تستحوذ على مجريات السرد لإثبات قوة ذلك الصراع وتعزيز وجوده بين ثنايا السرد .. وكلما يتعقد الصراع ويدخل انفاقاً متشابكة ، فانه سينتج افكاراً تلوّح بحلحلة الأمور، لكنه سرعان ما يُخيّب حدس القاريء لشدة وصعوبة التصعيد بين طرفين متصارعين ومتناقضين  . فكلاهما يحاول ان يثبت صدق دواخله تجاه قضيته التي يدافع عنها. في روايته (حرائق الصورة الاخيرة ) للروائي خالد موسى الجميلي ، يكون الصراع قد وصل حداً لا يمكن حلّه او مهادنته من قبل الطرفين المتضادين ، وهما تاجر المواشي عبد الله الحامد وطارق الشاب المثقف خريج الجامعة للفوز بقلب الحبيبة احلام التي صارت الهدف الأول لكلا الطرفين . لقد جعل الروائي الخلفية السائدة في الرواية هي الحرب ، ووصف مآسيها وجبروتها وانها القاسم الأعظم في حياة طارق التي اوصلته الى اليأس والتقهقر احيانا وهو يستذكر احلام استذكارا دائماً متشبثاً بها حد الموت. لكن الحرب تبدو اكبر معضلة لنيل رغبته في الحصول على غايته التي ظلت رغبة تغلي بداخله وتستنفر مشاعره واحاسيسه . فكانت معه في عواطفه لكنها وبصورة صاعقة تغيرت رغبتها فيه مما اوقعه  تحت تأثير صدمة عنيفة ، و صار انسانا مهزوما بفعل ذلك ( مهزوم ، نعم هذا هو الوصف الذي استحقه ) ص 76. هي الحرب اذن والتي لم يحصل منها طارق سوى اصابته لمرتين فيها فكانت بؤساً يطارده وعزلة ظلت تسيح بأفكاره في كل الوقت . لكن الإصابة في الحرب قد ساعدته يوماً ما في نقله من البصرة البعيدة جدا عن قريته الى الموصل القريبة عنها ، وهذا ما عزز ارادته اكثر في التقرب الى احلام ابنة قريته والتي زاملته في الكلية مع فارق المراحل . لكن الخذلان كان هو الأقرب اليه حين قبلت بالزواج من عبد الله الحامد تاجر الأغنام الغني صاحب النفوذ . ان رفض احلام لطارق وتهديم كل التاريخ الذي جمعهما ، وسجل لها قصة ظلت حديث القريب والبعيد ، كانت اللحظة التي قصمت كل المشاعر التي حملها لها بين طيات روحه طيلة سنوات. فزاد لهيب الصراع بين الطرفين المتضادين ، طارق الفقير وتاجر الأغنام الغني الذي بدد كل تفاصيل اللوحة التي رسمها طارق لمستقبله مع احلام ..( طارق واحلام يساوي فشل وخيبة واندحار ) ص159 .

لم تفعل الحرب الضروس فعلتها مع طارق وتهزمه ، رغم عنفها وهولها عدا بعض الإستلاب الذي جعله يفكّر كثيرا بحبيبته البعيدة . فكانت الحرب الخانة الخلفية التي ظل طارق ينفث من خلالها ما يمور في دواخله رغم سخونتها وسطوتها على تفكيره كانسان يريد ان يفوز بمراده الذي فقده في غفلة من واقع ظالم بالغ القسوة فرّق بينهما بسبب الفقر وبسبب الحرب نفسها ( العالم مليء بالظلم ، وعدم المساواة ) ص 142 ..ان الصراع الآخر الذي اشترك فيه الشخوص الفاعلة في الرواية ، هو صراع مقاومة الهزيمة النفسية التي وقعوا فيها بفعل الظروف القاهرة التي أودت بحياتهم الى اسفل الإهتمام حتى فقدوا الشعور بوجودهم في هذه الحياة . فكان الصراع الداخلي بين الخسارات والخيبات المتلاحقة لطارق ، قد اردته صريعاً للأفكار والمشاعر المشتعلة بالإنتقام عسى ان يجد خلاصاً في بقعة الظلام الذي سادت روحه . ان ادارة الصراع في رواية (حرائق الصورة الاخيرة )، قد جسّد لنا القيمة المتدنية للمشاعر مهما كانت صادقة .  فظل السرد يتنقل بنا من واقع الحرب المنتهكة لما يحمله الإنسان من افكار وروح ، وبين واقع الإنسان نفسه حين تدبّ في اوصاله خيوط الخيانة لتاريخ حافل بكل شواهده . ان مصائر الشخوص وهي تركض نحو مقاصدها في الرواية ، قد تعمّق حين كانت المواجهة بين القيم النبيلة والمشاعر الصادقة التي جسدها طارق ، وبين نوازع المصالح والتحدي والتضحية بكل اللحظات الجميلة والأماني المرسومة والتي مثلتها احلام . حين ارادت مغادرة حياة الفقر الى الرخاء من دون النظر الى الماضي مهما كان مؤثرا عليها . لكن النهايات تبدأ منذ اول سماع إطلاقات رصاص الزفاف  ، وهي اللحظة الحرجة التي بدّلت المفاهيم الراسخة في نفس طارق الى الأبد ( لم يعد لها عندي اي شيء ) ص143 . . ركّز الكاتب على لحظة الهزيمة بوصفها فعلاً مؤثرا وطاف بمجرياتها بإستذكارات وحكايات صارت تاريخاً مؤلماً وهزيمة من الصعب تجاوزها . دخل السرد في ساحة المزاوجة بين جانبين مظلمين هما الحب بأسمى صفاته ، وبين الحرب بأبشع لحظاتها فكانت تمور تداعياتها في دواخل احلام وطارق . لكن الفعل التثويري الذي اراده الكاتب كدالة واضحة على النهاية المفجعة كان بزوال احد الطرفين المتحابين من الوجود . فتموت احلام حرقاً في بيتها الجديد عن طريق حديث عابر داخل السيارة المتوجهة الى الناحية بين احد الركاب والسائق ، الامر الذي لم يكن سهلا ابدا على طارق ( احسست بان الجفاف اجتاح فمي ، كان فمي متيبسا ، وحاولت ان اتماسك قليلاً لأسمع نهاية تلك القصة ) ص 189 . وهكذا يضعنا الكاتب امام مفارقة اخرى وهي قيام طارق بإحراق صورة احلام وهي اخر صورة يمتلكها لها ، في الوقت نفسه احتراقها في بيتها ( وهو الوقت نفسه الذي احرقت فيها صورتها وتحولت الى رماد .. رماد .. ) ص190 . لقد وظّف الروائي الجميلي في روايته ، صورة الصراع بين نوازع البشر وهم يتسابقون نحو الحصول على رغباتهم مهما كانت بعدها وقربها من الصدق الذي كان سراباً ليس إلَّا.

عرض مقالات: