اخر الاخبار

على طول الطريق إلى المنزل كانت الأفكار في رأس شهد تتراقص كأنها في حفل، تقفز، وتترنح، وتتمايل، وتهوي أخيراً مبهورة الأنفاس، لتقف من جديد مواصلة الدوران والتوهج مثل أشعة البرق في ليلة شتوية. فور وصولها إلى المنزل، وبعد أن وضعت حقيبتها المدرسية على أريكةٍ في صالة الجلوس، أسرعت إلى المرآة وشرعت تنظر بتمعن لقوامها، وملامحها، غير مباليةٍ بصوت أمها الناقم وهو يذكّرها بالجراثيم التي ستنقلها الحقيبة لأريكة الجلوس.  كانت تفكرُ فقط بالدور الذي ستؤديه في المسرحية التي تعدّها أستاذة التاريخ. لمعت عينا شهد وهي ترى بشرتها ذات السُمرة الخفيفة التي قال عنها أبوها أنها تشبه لون التمر البرحي، وعينيها السوداوين المشوبتين بوهجٍ بنيّ، ثم دارت حول نفسها منتشيةً لدقّة خصرها وامتلاء وركها، وابتسمت أخيراً لطولها الفارع الذي ربما كان هو سبب اختيارها للدور، فقد سمعت أستاذة التاريخ تتذمر من قصر جميع الممثلات. أغلقت شهد باب الغرفة، فقد كانت أصوات الملاعق في الصحون تعكر ذهنها الضاج بالخطط والخيالات، كما إنها لم ترد أن تشرح لأبويها أسباب عدم تناولها الغداء. عندما يحين موعد عرض المسرحية  ستخبرهما ليكونا حاضرين، حتى ذلك الحين ستتدرب على دورها بهدوء بين جدران حجرتها.

لن يصدق أبواها، فقد اعتادا الحضور لإدارة المدرسة بين فترة وأخرى ليسمعا ملاحظات المديرة حول درجاتها المتدنية، وسلوكها السيء داخل الصف، مرةً جذبت إحدى الفتيات من ظفيرتها، وأخرى سكبت مشروب الكولا على الأرض مما تسبب في تزحلق المدرّسة، وثالثة نامت على مقعدها داخل الدرس. (عندما يرونني أمثل، سيعرفون جميعاً مدى روعتي، ويكتشفون كم كانوا ظالمين لي، فقد قالت لي تلك الفتاة التي خمشتُ ظفيرتها  أني بلهاء، كما إن مشروب الكولا وقع مني دون قصدٍ على بلاط الصف الصقيل، بينما نمتُ بلا إحساسٍ مني داخل الدرس لأني لم أنم قبل ليلة بسبب ألمٍ في الأسنان). إرتاحتْ شهد كثيراً إلى ما ستؤول إليه الأمور، وتخيلتْ ابتسامة أبيها، وهي تتحرك على خشبة المسرح، ودموع جدتها الجذلى، ونظرات أُمها الفخورة، وقضت ليلتها تفكر في تفاصيل الدور الذي سيتمُّ إسناده لها، مطمئنةً إلى عدالة الله التي ألهمت الأستاذة اختيارها للدور. سمحتْ لنفسها في الصباح أن تخالف الزي المدرسي قليلا، شعرت بشجاعة تصل حدود النشوة وهي تجعل شعرها مسترسلاً، من دون مشابك شعر، ثم في الطريق إلى المدرسة عرّجت على محل البقالة. حرصت على شراء الحلوى لزميلاتها في المسرحية، فكرت إنها ستكون بادرة لطيفة. إنها لحظة توزيع الأدوار، بدت الأستاذة جاهزة تماما وتعرف ماذا تريد،  كان على شهد أن تنتظر دورها، إلى جانب سائر الفتيات، حاولت أن تهدأ من نبضات قلبها المتسارعة لكن لم تعرف كيف، إستدعت وجه جدتها الأليف، عينيها الذابلتين، وجلدها الأملس الرقيق وصوتها المشجّع، زاغ بصرها في شجيرات الأكاسيا الصُفر من خلف زجاج النافذة، وهديل الحمامة المخنوق  المتقطع في الأنحاء، كادت تتابع خط طيرانها القريب، لولا أن صوت المدرّسة هبط فجأة: وأنت يا شهد ستؤدين دور الشجرة. على خشبة المسرح، وبعد ارتدائها زي شجرة تفاح، وقفت شهد بلا حراك في الزاوية القصية، مادةً يديها باستسلام كمن يريد الطيران. كل ما عليها عدم الحراك، إن أي حركة قد تقوم بها بلا قصد قد تُفشل المسرحية، هكذا قالت لها الأستاذة مخرجة العمل، وهي تشرح قائلة:

-ها حبيبتي شهد…دور كلش سهل، مراح تعبين ولا تدربين، بس تلبسين زي الشجرة وتوگفين هناك. أشارت المدرّسة إلى أحد زوايا المسرح، وهي تكمل:

-شهد إذا تحركت يعني شغلنا يروح هدر ...

إبتسمت المدرّسة وهي تربت على كتف شهد في ما يشبه المواساة، لتختم حديثها:

-دورك مهم شهد...تذكري ...ولا كلمة ولا حركة.

كان وقع خطى الممثلات على خشبة المسرح يصل إلى شهد بوضوح،

الحوار الذي يدور بينهن، الضحكات، الرقصات، حتى حفيف بدلاتهن استطاعت أن تلتقطه في مكانها هناك.

كادت الأمور تمر بسلام، لولا أن ألماً بدأ يسري في يديها، حرّكت أصابعها بحذر شديد، شعرت أن يديها تتخدران، وأصابعها تتصلب، وساقيها ترتجفان.أغمضت عينيها، هجم ضوء بدّد عتمة الشجرة التي ترتديها، ضوء رفيع يشبه وهج شمعة( كيف دخلتْ هذه الحشرة إلى هنا؟! يا إلهي! أنا أحلم.. حشرة مضيئة بألوان زاهية، إنها عالقةٌ معي هنا في زي الشجرة، تقف على أنفي … تدغدغني).

أطبقت شهد على فكيها بقوة، وهي تقاوم رغبة كبيرة في التبول، ومسح العرق عن وجهها، فيما كانت الحشرة تحوم حول رأسها.

لكن الشجر لا يتبول، ولا يتعرق، ولا يتعب من الوقوف، فكرت شهد بأبويها الجالسين، وكلام أستاذتها. تنفست الهواء الراكد تحت الزيّ، ثم أطلقت زفرة كبيرة وهي تصغي إلى الحوار تحت أغصانها:

-لقد قررتُ أن أسافر… وحدها الأشجار تظلّ واقفةً مكانها..

شعرت شهد بيد الممثلة تقبض على ساقها وهي تنطق جملتها تلك.

(نعم الأشجار لا تتحرك أبداً ..لا تتكلم، لا تستطيع حتى مسح دموعها، المرة الوحيدة التي شاهدت فيها الأشجار تتحرك هو في مشهد زلزال في التلفاز). بللتْ شفتيها بلسانها، ثمة مذاق خاص من الدمع والعرق في فمها، بينما شعرت بالسائل بين فخذيها ساخناً مندفعاً.  تحتها أرض المسرح تحركت قليلاً، لم تكن متأكدة تماماً، لقد تحرك شيء ما، ربما القشرة الأرضية برمتها، ربما قدميها، لكن الشق في المسرح كاد يلتهمها، لم يكن من الممكن أن تتشبث بالأرض أكثر، قفزاتها كانت هائلة وصراخها انطلق مدوياً، وحركات يديها وهي تمزق الزيّ جنونيّة. لم تهتم بالسرعة التي فرغ فيها المكان، ولا بنحيب جدتها المتفجع، ثمة شيء ما فيها ظل يزأر لوقتٍ غير قصير، قبل أن ينهار.

عرض مقالات: