اخر الاخبار

الشمس في تلك الساعة الصباحية تشع بدفء ونعومة , متناغمة مع  نسيمات الهواء الخريفية التي راحت تتلوى بهدوء على أغصان الأشجار فبعثرت الأوراق وذرتها على بلاط الساحة الكبرى التي تزينت بألوان الأعلام كأنها تنشد مواويل الفرح وتأوهات المستقبل...

 أنتشر المتظاهرون على طول الساحة وعرضها في مجاميع متفرقة بأنتظار النهار المحمل برائحة الأشياء والحركة والصحو.

الأزقة والشوارع بدت كأنها هدير سيل لاينقطع من الناس , حاملين معهم الأعلام واللافتات متجهين صوب الساحة الكبرى . اللافتات علقت على مشارف الساحة... مكبرات الصوت جهزت... الأعلام أنتصبت على السواري خفاقة فوق الرؤوس... مستجيبة بليونه لهفهفات الريح أذ تنبعج قليلاً وتعود متوترة مشدودة مرة أخرى كأنها تحمل يقيناً إن الساعات الآتيه سوف تأتي وتحمل معها أكاليل العرس لتنطلق مزهوة ومهلهلة بالجموع الهادرة التي راحت تدرك بحماس وقدرة على صنع الحاضر والمستقبل...  غير مبالية بالحشد الأمني الكبير الذي تمركز خلف الكتل الكونكريتية وأحاط المكان وما حوله بالحواجز لمنع المتظاهرين من العبور صوب الضفة الأخرى الذي يقع فيها المقرالحكومي.

 كان جمال وساهرة وسط الجمهور الهازج... يندفع في قلوبهم الحماس والفرح دونما قدره على كبحه... حيث كانت أرواحهم ترفرف مثل جناح أبيض يثير الزوابع وهفهفات الريح المداعبة... ينتظرون بصبر العاشق أي تظاهرة أو أعتصام  ليشاركوا مع القوى المناضلة وفي عيونهم وميض يتحدى الظلم والأستبداد والفساد .

جمال يتصدر المتظاهرين ماسكاً بطرف اللافته العريضة البيضاء التي لهجت حروفها بالتحدي وتوق النداء ...بينما وقف رفيقه رافعاً اللافتة  من الطرف الآخر في الصفوف الأولى من التظاهرة... صوت جمال يأتي هادراً , قوياً , يدوي كريح سكرى يطوف وسط الساحة... حيث تتوقد الشمس والكائنات والأشجار, متلازمة ومتحدة مع الأصوات العارمة... حاملة في لجاجتها هموم الشعب ومعاناته .

ساهرة هي الأخرى تتقدم الصفوف النسائية.. ملوحة بيدها وضامة قبضتها مع الأيقاع الجماعي، معتمرة  بفيض من الحماس حيث تتعالى الهتافات والأهازيج وتلتم القبضات مرة واحدة وتتعانق الأصوات مع بعضها عبر الأثير..  أصوات توقظ  ليل الطواغيت وتقتحم غشاء الحياة المرين وتهزه.

وبينما كانت السعادة والزهو والأندفاع يملأ قلوب الجماهير المحتشدة... كانت هناك أصوات تتعالى وسط الساحة الكبرى... أصوات يعلوها الصخب والأستفزاز... هتافات مريبة .. ملفعة بعباءة وطنية وفي جنابتها يخبو العبث والتلوث والأنهزام.. تحاول أن تبعثر أحزمة الصفاء والهدوء التي تتغنى بها الساحة الكبرى.

 ساعة الظهيرة تزداد حرارة ... نسيمات الهواء تستجدي سخونتها من الصدور اللاهثة  التي جاءت مهرولة من الأزقة...صبية مراهقين يعتريهم  الصخب والبلطجة ، مندفعين  صوب الساحة... هتافاتهم تسمع من بعيد في ما يشبه الصياح ..مقترنة برعونة وأستفزاز...ملوحة وهاتفة بسقوط الحكومة .

الساعات ما بعد الظهيرة تزداد توتراً والساحة الكبرى أخذت  تضطرب وتنوس تحت ضغط جموع الشباب عندما راحوا يرمون الحجارة على القوات التي تهاجم بشراسة، بينما أخذت مجموعة أخرى تزحزح الكتل الكونكريتيه التي نصبتها القوات الأمنية لمنع حدوث أي أحتكاك مع المتظاهرين ... الوضع يزداد سوءاً وعناداً... (قوات مكافحة الشغب) تطلق العيارات الصوتية التحذيرية ... مكبرات الصوت تصدح بالنداءات المطالبة بعدم التعرض على القوات الأمنية والمحافظة على الأمن وسلمية التظاهرة .

جمال ورفاقة  والجماهير المحتشدة كانوا على يقين أن هنالك عناصر مندسه بين صفوف المتظاهرين تشجع وتغذي العناصر المنفلته , غايتها حرف التظاهرة عن مسارها السلمي والمطلبي .

كان جمال والجماهير المنتفضة تراقب الوضع بكل حذر وأنتباه.. الأصرار والتحدي يملأ قلوبهم عزيمة لمواصلة التظاهر... الحناجرلازالت تصدح مجتمعة بالهتافات الحماسية صاعدة تارة وهابطة تارة كزورق ماء يشق طريقه في الأمواج العاتية ...

عمود الشمس ينحدر صوب المغيب...المناوشات تأخذ مدى أكبر في الفوضى... القوات الأمنية تطلق العيارات النارية التحذيرية فوق رؤوس العناصرالمشاغبة التي راحت تقذف القوات الأمنية بالزجاجات الحارقة.

 قرص الشمس أنحدر تحت الأفق والحمرة المشرقية أضمحل ضياءها والمساء أرخى سدوله بضياء الباهت وأعمال الشغب لازالت مستمرة في مواجهة المتظاهرين.. العيارات النارية الحية والقنابل المسيلة للدموع تتساقط  في وسط الساحة وعلى جوانبها... الدخان ينتشر بسرعة... الدموع تسيل بلا بكاء... الصدور مكدودة  تستجدي الهواء من العدم...دخان القنابل المسيلة للدموع يختلط مع سحب الدخان الأسود المنبعث من المحال والعمارات التجارية المحترقة مما تثير صورة مأفونة من القيء والغثيان...

 في لحظة ما أعتلت ملامح جمال ورفاقه سحابة من ألم مكتوم , حينما تطلعوا الى الساحة الكبرى وقد تخللتها الفراغات بعدما كانت أجساد الجماهير متكاتفة ومتلازمة مع بعضها ... وبات الأسى يعصر قلوبهم حينما رأوا الساحة  قد تناوشتها الصبية والبلطجية وحولتها الى هدير طبول هائجة وصورة مشوشة غائمة فقدت أبعادها وأمست سديماً تدور في اللاجدوى من البقاء...لف اللافتة ووضعها تحت أبطه , أخذت عيناه تجوسان في أرجاء الساحة ومشارف الطرقات بحثاً عن ساهرة.. أفكاره  تغرق في بحيرة من الهواجس خوفاً من تعرضها لمكروه ... تذكر كلامها البارحة عندما إنتهوا من خط اللافتة ...

قالت له وأبتسامة كانت قد أنداحت على وجهها الحنطي المدور : -

- كم يكون الأحتجاج جميلاً ورائعاً أذا خلت الساحة من هراوات الشرطة والقنابل المسيلة للدموع.

تطلع اليها بنظرة مشفقة ثم أبتسم وقال : -

- وكم يكون اليوم جميلاً ورائعاً حينما تخلو الأحتجاجات من البلطجية والمندسين..         

أضواء الساحة الكبرى يلفها شعاع باهت مخنوق بالدخان المسموم , يعج على بلاطها قرقعة بساطيل الشرطة ... خيال المتظاهرين الفارين من هراوات الشرطة وأصوات الرصاص يتبعهم ويغمر جوالساحة بهديره المفزع .

كان جمال قد وصل نهاية الساحة , متجهاً نحو الشارع الرئيسي متأبطاً في أحد ذراعيه اللافتة... مبتعداً من أجواء الساحة المخنوقة التي أكتنفها الليل والرصاص وحزم الضوء الذابلة. وصل الى نهاية الشارع... وقبل أن يضع قدمه على أحد منعطفات الشارع  المتجه صوب بيت خاله ... شعر بنصل حارق يخترق بصمت كتفه الأيمن ... مد يده نحو كتفه أحس برطوبة تكتنف أصابعه... سحبها أمام عينيه...دماء ملأت صفحة راحته..  لعل أحد الرصاصات الطائشة قد أصابته... عليه أن يتمالك نفسه ويشد عزيمته وأن يستجمع كل قواه لمعالجة الموقف ...أبتسامة أخذت تسوح على شفتيه  أتسعت بسخاء على كل مساحة وجهه , وضع اللافتة جانباً... أتكأ على حائط أحد بيوت الزقاق.

أخذت يداه تفك أزرار القميص... مد يده الى اللافتة... شطر قماشها الأبيض طولياً... طوى جوانبها على بعضها ...لفها على كتفه... وشد الجرح بقوة... مد بصره نحو نهاية الزقاق...المسافة ليست بالقليلة حتى يصل بيت خاله... أحس كأنه يسافر بعيداً ويحمل في أعماقة حلم يقظة الليل الذي أكلته الوحشة وأثار في نفسه أحساساً بالمواجهة والتحدي ...

البيوت التي يمر بجانبها ويضع يده على جدرانها كانت تبدو ساكنة وادعة خالية من ساكنيها , يسير مع ضوئها الباهت المتسرب من النوافذ... وقبل أن يصل الى نهاية الزقاق  شعر أن عقدة رباط جرحه قد أرتخت ... فتح العقدة وشدها من جديد...أزاح جسمه قليلاً من الحائط.. خطواته المتعثرة تسوقه الى بحر من الذكريات... وقفت أمامه لا تريد أن تغادر مخيلته... تذكر عندما قاد أحدى التظاهرات مع رفاقة أيام كانوا طلاباً في الأعدادية ، وخرجوا ملوحين وهاتفين بالأفراج عن رفاقهم المعتقلين في سجون الطغمة الفاسدة ، وقد تعرضوا حينها الى الأعتقال ، وكان جمال الوحيد الذي تم فرزه في زنزانة إنفرادية... تذكر تلك الغرفة التي غاب عنها الضوء وأنداح في جدرانها الصمت والخواء..

الساعات الأولى قبل التحقيق... ساعات ثقيلة ضاغطة من الوحشة والملل والأفكار السقيمة غير المجدية... يتلهى بالجدران الصماء التي تحيط به... يبحث عن كلمة او عبارة خطت على الجدران  تركها المعتقلون لتسلية يومهم المغموس بالصمت والمرارة والخواء .. كانت هناك كتابات خطت بالأظافر... أسماء وتواريخ لا تعني له شيء...لكن الذي أثار الانتباه هناك جملة ران عليها القدم وعلا حروفها سواداً باهتاً... ربما خطت بدم أحدهم تقول :

( أيها المناضل...أذا ما أهتزت أمامك قيم أحدهم في الظروف العصيبة... فتذكر قيم المبدأ والنضال ، أذ أنها وحدها القادرة على أن تصنع منك بطلاً ).

وصل بيت خاله...طرق الباب , بعد لحظة فتح الباب...تطلع الى وجهها متأملاً ومستغرباً ,بينما وقفت ساهره مشدودة أزاء الباب مرتعشة كسعفة ضعيفة داهمتها الريح ... أمتزجت الشهقة مع الدمعة النابعة من القلب... ضمته الى صدرها...أخذت تغالب دموعها بصعوبة...أسندت ذراعه على كتفها وسارت به الى غرفة الأستقبال.. عندما فتحت قطعة القماش البيضاء...تأمل وجهها مستغرباً...كانت اللافتة التي ربط بها جرحه قد تجمدت عليها الدماء وغطت كل شعار اللافتة في حين بقيت كلمة (وطن) بيضاء ناصعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص عراقي، صدرت له مؤخراً مجموعة قصصية بعنوان “عندما يهتز الجسر طرباً” ضمن منشورات اتحاد الادباء والكتاب في العراق.