اخر الاخبار

أُضطرُّ وأنا في طريقي إلى دار النشر، بذاك الزقاق الضيق القديم ، إلى حبس أنفاسي ربما لدقيقةٍ أو دقيقتين، وهي  المدة الكافية لتجاوز تلك البقعة الساكنة الرطبة، حيثُ كانت رائحة ذلك المتشرد الذي يرزح تحت ثقل الأغطية تغشى حواسي مسببةً الغثيان.

تعلمتُ جيداً كيف أتفادى تلك اللحظات، ما عليّ سوى إبعاد نظري إلى جهةٍ أخرى، والتوقف عن استنشاق الهواء.

ما إن أتجاوز تلك البقعة بقليل، حتى أُرخي حواسي مرة واحدة، مستنشقةً الهواء، الكثير من النسمات البعيدة عن فضاء ذاك المتشرد الذي لم أره مستيقظاً مرة، كأنه مقطوعٌ من هذا العالم بطريقةٍ ما، مثل شجرةٍ عجفاء منسية في أرضٍ موحشة.

ربما كان يتناول نوعاً من المهدئات تساعده على النوم، وتساعده أيضاً على العيش مع هذه العفونة، حيث بدت أغطيته داكنة، وشعره المنكوش ربما لم يُغسل منذ أعوام. عرفتُ ذلك في المرة الأخيرة، حيث وجدتهُ صاحياً، ظهره إلى الجدار، وعيناه زائغتان في الفراغ.

هذه المرة لم أبعد عينيّ، ثمة شيء ما في أعماقي رغب بذلك، غشيتني لذة التحديق في الأشياء الغريبة، الأشياء المنفّرة، المشوهة والشاذة، بشرته التي تنوء بقذارةٍ لا توصف، فمه المنفرج بتراخ عن أسنان صُفر، نظرته التائهة المنكسرة.  كابدتُ غثياناً وأنا اقترب منه قليلاً، لقد قررتُ فجأة أن اكتب قصته. عرفتُ أن عليّ الإقتراب أكثر، والإنصات ربما إن قرّر ترك الصمت، والإفلات من بقعة الألم تلك، وأثيرها الكثيف في ذلك الزقاق. ربما سيرغبُ في إخباري عن أُمه الراحلة!

بعدما تضيع عقولنا، لا يبقى لنا سوى الأُم، فإذا رحلت، لا أحنّ علينا من الطرقات، وحدها لا تسأل ولا تشمئز.

_مرحباً

_……

_من فضلك .. لديّ بعض الأسئلة.

كنتُ قد توقعتُ أنه لن يتكلم فوراً، ربما يحتاجُ لأن يفكر قليلاً، يوقظ ذهنه المشتت ، يستعيد بعض ذكرياته. بدت عيناه يقظتين، ولوهلة لمحتُ بريقاً فيهما، ربما يحب جلوسي قريبةً منه، والحديث معه، إن تحت هذه الطبقة الكثيفة من الأوساخ، وكومة الأغطية الداكنة، والرائحة العطنة، كيان يتوق إلى لمسةٍ حانية، هذا ما ظننتهُ عندما راح يبتسم ببلادة، ويتمتم بكلمات غير مفهومة، مثل شخص مخدّر.

لم أحصل على اعتراف يصلح قصةً مهمة، ولا حتى معلومة غريبة، لم يكن هناك سوى ذلك الإحساس الذي تخلّفه رؤية المشاهد المؤلمة المشوبة باللذة، مثل رؤية توأم سيامي، أو ذوي العاهات الغريبة، أو مشهد حريق عارم.

وأنا ادخلُ إلى دار النشر، شعرتُ لأول مرة أن بحوزتي مادةً خام، أستطيع تشكيلها بالطريقة التي أريد، إنها مثل الطين بين أصابعي، وما عليّ سوى اختيار قصته المفجِعة، ورسم ملامحها الدامية.

كانت تصلني كلمات الكتّاب في دار النشر مثل همهمات مبهمة، وأنا أسطّر رحلته الفريدة،

في الصفحة الأولى ثمة طفل أسمر نظيف بشعرٍ مجعّد وعينين ذكيتين وجبهة عريضة، كان يلعبُ بالكرة وحيداً، في الحقيقة لم يكن وحيدا، السور الخارجي للمنزل معه، يتلقّى الكرات مثل رفيقٍ وفي.

بلّلت قطرات المطر التي بدأت تنزل بنعومة جسده النحيل، لكنه لم يعبأ، حتى صارت القطراتُ وابلاً، شرع يقفز فرحاً، كأنه يرقصُ رقصةً ما. خطوات أمّه كانت عجولة، وهي تسيرُ إليه، جذبتهُ من يده إلى المنزل.

تتعاقبُ الليالي والأيام على تلك الدار، بعض الزهور ذوتْ، وبعض الجدران تصدعت وعلى الطريق يظهر الصبي الذي صار كبيراً بعض الشيء بظهرٍ منحنٍ قليلاً، إلى جانبهِ تسير أمّه بخطىً ثقيلة وعينين خائبتين، بصوتٍ متهدج تحكي لبائع الخضار عن زوجها الذي لم يعد، ربما غرق، تقول للبائع المُسن .. إنهم قتلوه وألقوا بجسده بعيداً خلف أحد السدود. تتنهّد وهي تشدّ على كفّ ابنها:

_يقول الشيخ العارف أنه ممسوس، قال إنه يستطيع مساعدته، لكنه طلب مبلغاً كبيرا، ثمة أغراض عليه أن يشتريها لعلاجه، كان بخيرٍ تماماً حتى غاب والده، هكذا قالت وهي تلثمُ كفّه. بدا الولدُ هادئاً ومدركاً.

_هل هو مؤذٍ؟

سأل الرجل المُسن.

_لا … إنه وديع وطيب، درجاته المدرسية جيدة أيضاً، لكنه يتحدث بلا انقطاع، ثمة أشخاص خفيّون يبدون غريبي الأطوار، يأتون إليه في كلِ حين ليكلمهم عن أشياء ما .. أشياء خطرة.

_أشياء مثل ماذا؟

_لا أعرف، كلامهم يشبه الغمغمة، لكن ملامحه وهو يتحدث معهم تغدو غاضبة ومتكدرة، أحيانا قليلة تبدو راضية. في الليل لا يكفُّ عن البكاء، يقولون له أشياء قاسية، كأنهم يذكرونه بغياب أبيه.

غاص الرجل المُسن في سكوتٍ عميق، وتظاهر بالإنشغال في ترتيب الخضار، لكن يديه كانتا ترتجفان. وعينيه تسترقان النظر للصبي ذي الملامح الشاردة.

لم يكن الرجل بائع الخضار موجوداً عندما حضرت سيارة الإسعاف لنقل جسد والدة الصبي إلى مثواه الأخير، لكنه كان حاضراً عندما جاء مالك الدار ليسترد داره. راح يراقبُ بفضول خطوات الصبي المتلكئة، حركة يديه الرتيبة مثل بندول، إلتفاتاته الخاطفة يميناً ويساراً، ثم إنه لمح دموعاً على خديه الضامرين، كاد أن يناديه، لولا أنه تذكر الأشخاص الخفيين، وأحاديثهم المحتدمة المبهمة.

عرض مقالات: