اخر الاخبار

قال هاري: “إبتهجي! إنه ليس أمرا خطيرا حقا”.

-”ألا تراه كذلك؟”

ابتسم فقط. تلك الإبتسامة، كانت هدية عظيمة، مفاجئة، صريحة، مُهدِّئة ، ومثل ابتسامةِ طفلٍ شكّلها أذى مبهم. كان مستحيلا التحدث جديا عن أي شيء إزاء دفاع مفاجيء ساحر كهذا. نظرتْ اليه، تفرست فيه كما لو كانت تتفحص شخصا غريبا تماما.. القَصّة القصيرة لشعره رملي اللون، العينان الصغيرتان، اللطيفتان والحزينتان كعيني كلب، الشفتان الناعمتان ولمعان ابتسامته المثيرة. فكرت بأن هاري وسيم تقريبا بالتأكيد، ولكنه مصطنع بشكل غريب. كان يوجد إحساس نحوه كالإحساس نحو غريب. لا يمكنك التفكير فيه على أنه يمتلك ثلاثة أبعاد.

واصل حديثه قائلا: “كلا. سنتجاوزه، وكل ما تستطيعين تجاوزه فهو في الواقع ليس خطيرا... مثل الحصبة”.

-” أو الجدري”.

ابتسم هاري مرة أخرى وصب بعض البيرة في كأسها. كانا جالسين في مطعم إيطالي صغير قرب نهر آرنو. كان الوقت غسقا، الغسق الطويل الذهبي لمنطقة توسكاني في أواخر الصيف، وكل الطاولات مشغولة. على طول الأرصفة، وعلى جانبي الشارع، تنساب حشود الناس الزاهية كانسياب ماء النهر. كانا قد وصلا للتو الى بيزا ذلك العصر قادمين من روما.

قال:” سنبقى هنا بضعة أيام ونرتاح. إنه مكان مريح. نستطيع الجلوس الى النافذة ونتناول وجبات إفطار متأخرة وننظر الى النهر، وفي الصباح سآخذك لنرى برج الجرس، إنه يميل فعلا، تعرفين”.

قالت:” هل يميل؟ لست متأكدة من أني سأبقى معك. أنا لست متأكدة مطلقا من أنه يتوجب علي البقاء معك”. قال: “لا تكوني سخيفة. طبعا ستبقين معي”. قالت: “أنت متأكد جدا مني، لماذا أنت دائما متأكد مني جدا؟”.

كانت تفتش في محفظتها عن أعواد ثقاب. ظنت للحظة أنها ستبكي، ولم تكن تريد لهذا أن يحدث. انحنى عبر الطاولة وأشعل سيجارتها بقداحته. سألها: “الى أين ستذهبين؟”. قالت: “أيها النغل”. قال هاري: “كلا أنا جاد. لمرة واحدة أكون جادا تماما. لنحاول ونكون عقلانيين بخصوص هذا الأمر كله. الى أين ستذهبين؟”. أجابت: “الى الوطن. أظن أني أود الذهاب الى الوطن”. قال: “خارج الموضوع. ما الذي ستفعلينه عندما تصلين الى هناك... الحصول على طلاق؟”. قالت: “توقف عن هذا يا هاري. لا أعرف ما الذي أنا بصدد فعله”. قال بسرعة: “أريد أن أعرف. أتريدين الطلاق أم لا تريدين؟ إن الأمر بهذه البساطة.. إما...أو”. -” لا أعرف يا هاري. لا أعرف ما أفعل حتى الآن. أحاول التفكير في الأمر كله. هلا تتوقف عن سؤالي أسئلة غبية؟”. - “ماذا عن الطفل؟ عليك أن تفكري بذلك. هل توقفتِ مرة عن التفكير في الطفل؟”. أخيرا بدأت تبكي. ناولها منديله وقال: “رجاءا، حتى لو كان هؤلاء الناس لا يفهمون الإنكليزية فإنهم لا يستطيعون تجاهل امرأة باكية”. ــ- “أنت تهتم بما يفكرون فيه، أليس كذلك؟”. - “مهلا، أنت ترين، عليك أن تتوقفي الآن”. قالت: “يمكنني أن أقولها بالإيطالية. يمكنني أن أقف وأقول بإيطالية بسيطة... هذا هو زوجي الذي يجعلني أبكي. زوجي يجعلني دائما أبكي. زوجي ينام دائما مع نساء أخريات، وعندما اكتشف الأمر نغادر. نحن دائما نغادر الأماكن”. - “هل تعرفين ما سيقولونه؟ سيقولون لماذا لا تتركيه؟ الرد المنطقي”. - “أكنت ستحب ذلك، أكنت ستحب؟”. قال هاري: “لا أعرف. أنا لم أفكر في الأمر في الواقع أبدا حتى اللحظة”. - “لا يمكنك حتى تخيله. بعد كل هذا الزمن لا تستطيع تصور تركي لك. الآن أنا حامل، أنت واثق”. - “أيجب عليك أن تخوضي في هذا كله؟”. - “أنت لا تستطيع حتى تخيل تركي لك، هل تستطيع؟”. قال: “كلا. أقول لك الحقيقة لا أستطيع”. قالت: “حسن، إفترض أني لم أتركك. إفترض أني بقيت فحسب. ثم ماذا؟”. قال مبتسما ابتسامة رائعة: “كل شيء. ثم كل شيء. سنبدأ من جديد. لا يوجد سبب يمنعنا. نستطيع الذهاب الى باريس. أعرف أناسا هناك”. - “لم لا نذهب الى الوطن؟”. -”لِمَ لا؟”. - “هل أنت جاد؟ أستذهب حقا الى الوطن؟”. - “وقد أذهب الى العمل. إن الأيدي الكسولة...”. قالت: “الشيء البغيض هو أني لا أعرف أبدا متى تقول الحقيقة. أنا لا أعرف أبدا متى أستطيع أن أثق فيك”. أشار الى النادل وقال: “أظن بأنه سيتوجب عليك ذلك. أظن بأن عليك أن تنتهزي الفرصة لا أكثر”.

عبرا الشارع واندسا في حشد الناس السائرين على طول ضفة النهر. كان الظلام قد بدأ يحل والجبال الى الشمال كانت مجرد كتلة من الظلال القاتمة. كانت الجبال تختفي والنهر مظلما. استطاعت أن تشم النهر وأن تسمعه، ولكنها تستطيع فقط أن تراه حيث يسقط ضوء. شعرت بالدوار، كما لو أنه ليس هاري فقط بل العالم كله غير حقيقي، يختفي. الظلام يحل والجبال تختفي. سألت عندما كانت طفلة: “الى أين يذهب كل شيء في الظلام؟”. أجابت المربية الزنجية: “الأشياء تذهب للنوم لا غير. إنها تنطوي فحسب وتذهب للنوم”.

ذهبا عبر الجسر مع حشد الناس ثم كان هناك شارع ضيق مرصوف بالحصى فيه مقاه ومطاعم ومسارح سينما. سمعا فرقة عسكرية تعزف بصوت ضعيف في مكان ما وسمعا الضحك  وعبارات اللغة الفخمة في كل مكان حولهما. الى أبعد في الشارع دخلا ساحة صغيرة في ركن منها حلقة ضيقة من الناس حول شخص واحد، كان لونه شاحبا جدا تحت ضوء مصباح، قوي البنية، يرتدي بنطلونا قصيرا للسباحة وحذاء رياضة. وقف مسترخيا، متهدل الكتفين، فيما رجل قصير سمين تلتمع صلعته تحت الضوء، مشى بطيئا حول حلقة الناظرين عارضا إعلانا بصورة الرجل الذي يرتدي بنطلون السباحة.

سألت: “ما هو؟ ساحر؟”. ضحك هاري وقال: “كلا. هو نوعا ما رجل قوي. أتودين رؤيته؟”. ـــ “لا أدري. لم أر أحدا مثله أبدا”. - “فلنتفرج”.

حل صمت فيما بدأ الرجل عرضه. رفع وزنا ثقيلا فوق رأسه، متوترا، وعضلاته الشاحبة تنتفخ والعرق يتلألأ على جسمه كله. عندما انتهى مشى الرجل القصير بين الجمهور آخذا قليلا من القطع النقدية في قبعته. إتكأ الرجل القوي الى عمود المصباح وهو يتنفس بصعوبة. فكرتْ بأنه بدا في غاية التوحد هناك تحت دائرة الضوء، وحيدا وعاريا تقريبا، لم يبد أنه ينظر الى أحد أو شيء، بدا غير منتبه للجمهور. كان فقط يرتاح، متنفسا بمشقة، متحفظا متوترا كحيوان مفترس في قفص. أمسكت يد هاري بين يديها. قال هاري: “فلنذهب. هذا شيء ممل”. قالت: “انتظر. سيقوم بشيء بالحبال”.

لف إثنان من الجمهور حوله باهتمام شبكة حبال معقدة، وعندما انتهيا كان قد أصبح لا يستطيع تحريك يديه أو رجليه، وتراجعا الى داخل الجمهور. ظل الرجل القوي ساكنا للحظة ثم أغمض عينيه وبدأ يتوتر داخل الحبال. كان العرق ينزلق على جبينه ، والعروق الكبيرة في رقبته تظهر زرقة وتنتفخ تحت جلده. بدأ ببطء، وبألم كما بدا، يقوم بكتفيه بحركات . خلفت الحبال خطوطا حمرا حيث انغرزت في لحمه. لقد بدت لها لحظة يائسة ولن يستطيع التحرر أبدا، وإذا به يتلوى بحدة وبطريقة ما حرر ذراعا. صفق الجمهور ومرر الرجل القصير القبعة مرة أخرى فيما الرجل القوي يحاول التخلص من باقي الحبال. قالت: “سيجرب بالسلاسل المرة القادمة. لنره يتخلص من السلاسل”. ـــ “إنها مجرد حيلة. ألا ترين ذلك؟ هيا بنا”. - “أريد أن أشاهدها”. قال هاري: “في سبيل المسيح. أوه، لا بأس”.

بدأ الرجل القوي بجسمه كله يتلوي داخل السلاسل، وبغتة إنزلق وسقط  وأخذ يلهث وصدر صوت الحديد شديدا على الحصى ، واستلقى على الشارع ساكنا سكون دمية ساقطة. قال هاري: “فلنذهب”. قالت: “أريد أن أتفرج. أريدك أن تبقى وترى العرض”. - “لن يستطيع الفكاك الآن. سيتوجب عليهم تحريره”. - “لا أظن ذلك”. قال هاري: “هذا شيء سخيف. لا أستطيع أن أجد سببا لوجوب وقوفنا هنا ونتفرج على هذا العرض”. قالت: “أنظر! إنه يتحرك الآن”.

بدأ الرجل القوي يتلوى في الشارع. تحرك متقدما على ظهره، متوترا ومرفرفا كالسمكة خارج الماء. تدحرج على بطنه وكان يمكنهما رؤية الدم على شفتيه والتركيز المزجج المتعصب في عينيه. قالت: “لست مجبرا على النظر. أغمض عينيك إن لم تكن تريد النظر اليه”. راقبت الرجل المقيد بسلاسل وشعرت بانتعاش غريب. شعرت بجسدها يتحرك، مشدودا مع الإيقاع الحاذق لكفاحه. ذراع حرة، ثم ببطء، غاية في البطء، الذراع الأخرى، واخيرا لوى رجليه المتألمتين ليخلصهما وهو جالس، وفيما مرر رفيقه القبعة، جلس الرجل القوي في الشارع ونظر الى ساقيه، مبتسما قليلا. إستدارت ونظرت الى هاري. لن يفهم هاري المسكين. مهما كان الذي قررت فعله في النهاية فإن هاري لن يفهم.

قال: “فلنعد الى الفندق ونتناول طعام العشاء”. عادا أدراجهما، وفيما عبرا الجسر على نهر آرنو رأت بأن قمرا جديدا طلع وأنها تستطيع رؤية الشكل المظلم للجبال. كانت الجبال لا تزال هناك، واستطاعت أن تشعر بقوة النهر وجريانه، وأن تشعر بطفلها، الحياة السرية تكافح في رحمها.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

Evening performance, new and selected stories by George Garrett. 1985   

*جورج كاريت 1929-2009 ، كاتب روايات وقصص وشاعر أميركي، كان شاعر فرجينيا المكلل بالغار للسنوات 2002-2004 . عمل فاحص نصوص وكاتب سيناريو وأستاذا في جامعة كمبردج ، صدرت حوله عدة كتب نقدية. لعب دورا كبيرا في مساعدة آلاف الكُتّاب الشباب للسير في طريق الإبداع الأدبي. كتب روايات كثيرة مناهضة للحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في آسيا وقد سميت هذه الروايات بالروايات السياسية، وقصصا ترجمنا منها قصة الجندي الجريح ونشرت في مجلة الثقافة الأجنبية العدد الأول 1995. حاز 14 جائزة أدبية وتوجد الآن جائزة أدبية بإسمه. رواياته 11 ومجاميعه القصصية 8 ودواوينه الشعرية 8 وله ثلاث مسرحيات وغيرها من الأعمال.