اخر الاخبار

لقد دفع مجمل التغيرات والتناقضات التي يعيشها مجتمعنا العراقي العديد من المندائيين العراقيين إلى إعادة النظر بشكل انتقادي في المفاهيم القديمة حول المثقفين ودورهم الايجابي في حركة المجتمع، فهم الآن لا يمثلون مجتمعا خاصا قليل العدد متجانسا اجتماعيا ومنفصلا عن دورة الإنتاج المادي والفكري، لان ممثليه يمارسون المهنة او العمل الذهني الصرف كل على انفراد. اذ اندثرت مفاهيم تقليدية كثيرة حول المثقفين وانعزالهم في أبراجهم البعيدة عن الناس وهمومها وتطلعاتها. المثقفون اليوم باعتبارهم أمناء للحقيقة ومثل العدالة ومدافعين عن مصالح الذين حرموا من حق الكلام، لا زالوا يعيشون بيننا ويربطون بين نشاطهم المهني والنضال، في سبيل التقدم الذي نسعى اليه جميعا.

والمندائيون يعتزون بان عددا من مثقفيهم لا زالوا يمثلون إحدى *رموزهم ورموز مجتمعهم الروحانية التي لا تنقرض، من خلال أفكارهم وطروحاتهم وعملهم النضالي الدؤوب، الذي لا يزال إلى يومنا هذا مؤثرا في العلاقات المتبادلة بين أبناء الطائفة بشكل خاص والشعب العراقي بشكل عام. وعميد المثقفين المندائيين الأستاذ عزيز سباهي (1925ــ 2016) الذي انخرط منذ صباه في العمل النضالي والفكري، هو نموذج الإنسان البار الذي مثل ايجابية الموقف مع نتاج الفكر، حارب كل إغراءات الحلول الفردية ومغريات مؤسسات السلطات الرجعية البائدة، التي عملت على تحطيم وتشويه الإنسان العراقي، ودفع ثمنا لأفكاره سجنا وتجويعا وتشردا، من أجل ان لا تزاحم الإنسانية شريعة الغاب، ومن اجل ان لا يتم التلاعب في قيمة الإنسان.

هذا الإنسان، المفكر، المناضل، النموذج، ظل يطالب بان تكون الثقافة بنهوضها وآفاقها الرحبة بكل عناصرها المترابطة، مُسخّرة للإنسان، وان تأخذ زمام مصيره وتاريخه العام بيديه، وان تكون جميع روافدها في خدمته، وان تؤخذ بالاعتبار جميع جوانب الحياة الثقافية المتعلقة بالعلم والتقنية والفن والرياضة والأخلاق وتربية المواطنة والسياسة. لقد عكس هذا الإنسان البار بكل معاركه ونشاطاته ومواقفه وفصاحته، في ظروف الانحطاط الفكري التي سادت العراق او خلال هوامش العمل الديمقراطي والانفتاح، مفهوم المثقف الذي لا ينفصل عن نصير الآراء التقدمية بكل جلاء:

نص اللقاء مع الكاتب والمفكر  الاستاذ عزيز سباهي

1- كيف توفق بين التزامك الشيوعي وانتمائك الديني المندائي حيث اصدرت كتابا اعتبر من أهم المصادر الحديثة عن تاريخ ومستقبل هذه الديانة العريقة، بالمقابل عملك الحالي في انجاز الجزء الثالث من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي؟

2- لقد تربيت في المناطق الريفية في جنوب العراق في وسط ديني. كيف استطعت ان تخرج شيئا فشيئا من هذا الوسط وتصبح كاتبا ماركسيا؟

3- هل لا زلت تعتقد بان الفكر الماركسي لازال صالحا لإصلاح الواقع العراقي؟

إذا سمحت، سأجيبك على تساؤلاتك هذه مرة واحدة، وكلها تدور كما ترى حول جمعي ما بين الانتماء إلى المندائية واعتناق الماركسية في آن واحد، وما تولد عن هذا من اهتمامات في ميداني الفكر والسياسة.

في البدء أود أن أشير إلى انني حين انخرطت في صفوف النضال الشيوعي في العراق إبان السنوات الأولى من أربعينات القرن الماضي، لم أكن يومها قد تعرفت على جوهر الفكر الديني، مثلما، في المقابل لم أكن قد الممت بالماركسية بعد، كفكر. ولكل من الأمرين أسبابه. فلا الوسط الديني الذي نشأت فيه كان بوسعه أن يقدم الإجابات الواضحة والمقنعة لجيلنا من الشباب، الذي كانت المعارف التي يتلقاها في المدارس (ويومها لم تكن الصحافة أو وسائل الأعلام الأخرى قد دخلت بيوتنا بعد) تفتح امامه آفاقا لا تسعفه بيئته العائلية البسيطة بتفسيرات مقنعة من جانبها. بالمقابل لم تكن المكتبة العراقية تزوده بما تطرحه الماركسية من تفسير للمشكلات التي تواجه هذا الجيل الا في النادر. وكل ما كان هنالك لا يتعدى افكارا وطنية صيغت لتوضيح المهمات الوطنية التي تنطرح امام الشباب من وجهة نظر الحزب الشيوعي العراقي.

هذا اولاً، ما اود التنبيه اليه ثانياً، هو انني انحدرت عن عائلة صابئية معدمة حقا، فقيرة إلى حد البؤس، إلى الحد الذي يدفعني إلى التساؤل بحيرة: كيف يا ترى استطاعت هذه العائلة، مع كل هذا، أن تدبر أمر إعالة خمسة اطفال؟ هذا من جانب (وهو بحد ذاته كما ترى يدفع بالشباب إلى الاحتجاج والنضال) من الجانب الآخر فالصابئة في العراق سابقا وراهنا يواجهون نوعا من الاضطهاد، خفي احيانا، ومكشوف أحيانا اخرى، من المجتمع وحتى من السلطات التي يفرزها هذا المجتمع. اضطهاد ماكر، ايديولوجي ومادي، لا يقر لهم بالمساواة، رغم انهم لا يقلون عن أقرانهم بشيء، ان لم يتفوقوا أحيانا ً. وكان لابد لهذه الحال ان تدفع بالشبيبة المندائية إلى البحث عما يعينها على الخلاص، ويحقق لها طموحها في المساواة، وهو، كما ترى بحث مشروع. وكان منطقيا ان يتجه الشباب، ومنهم المندائيون، إلى الحزب الشيوعي العراقي بالتحديد، ليس لصدقه فيما يفعل وحسب، وإنما لكونه يشرع ابوابه أمام أبناء الشعب، دون ان يضع أمامهم اية قيود أو اشتراطات، قومية او دينية او عشائرية او جاه ... الكل يجد فيه متسعاً رحباً للتعبير عن هموم جماعته، والكل يتساوى فيه وتآخى فيه مع الآخرين، ويتصدر صفوفه من هو أهل لذلك، بغض النظر عن كل الفوارق التي اتينا على ذكرها.

ومع الزمن، وتنامي المعارف وخبر الحياة والتجربة النضالية، بات يتضح لي ما خفي من أفكار كلا الانتماءين في بادئ الأمر، المندائي والماركسي. ولا أكتمك، إن هذه التجربة في كلا جانبيها لم تخل من قصور في الفهم، وتشنج في التعامل ومن نزعات الطفولة اليسارية احيانا. لا أزعم أنني غدوت أمتلك من كلا الأمرين ناصيته الآن. وعسى ان تمتد بي الأعوام قليلاً لأشبع بعضاٍ من فضولي في فهم العلاقة أكثر بين الانتماءين، تحقيقا للحكمة الصابئية المندائية: “ويل لعالم لا يمنح من علمه، وويل لجاهل منغلق على جهله”. والحقيقة أقول: إنني كلما ازددت وعيا بما تعانيه هذه المجموعة الصغيرة من الناس، ازددت يقينا بالحاجة إلى الاقتراب منها، والسعي للأخذ بيدها لكي تتلمس سبيلها إلى الانعتاق مما تكابده من مرارات.

قبل بضع سنوات كان لي لقاء مع جمع من المندائيين وبعض المثقفين من غيرهم في السويد في محاضرة، وضعت لها عنوان غير مألوف: “الاشتراكية والحلــم المندائــي”. يومها قال قائل إنني أمارس دعاية سياسية. لكنني كنت يومها، ولا أزال، أؤمن حقا بما قلته. ظل الصابئة المندائيون ولقرون طويلة يعيشون في بيئة منعزلة يسودها اقتصاد المقايضة. يحلمون بالمساواة والحرية... حتى إذا زحفت نحوهم العلاقات الرأسمالية الحديثة، بدأوا يواجهون وضعاً صعباً... تكيفوا له حقاً بما عرف عنهم من طيبة ومسالمة ومثابرة، لكنهم باتوا يواجهون خطراً جديداً هو انحلالهم كطائفة ذات معتقدات خاصة. وفي المهجر تحولوا، وسيتحولون ولا شك، إلى ما يشبه الأيقونات في المتاحف ... تحتاجهم دوائر الدراسات اللاهوتية كعينات حية لدراسة ماض سحيق من الصراعات الدينية ... ولهذا لن يجدوا هنا، ايضا، متسعا رحبا لتحقيق أحلامهم كما علمتهم إياها معتقداتهم. إن أبرز ما تؤكده العقائد المندائية تأكيدها على الجمع ما بين التطلع إلى العلم، والحث على العمل. حتى الإنسان الراهن يعجب حقا بما تسعى المندائية إلى تقديمه في تفسير ظهور الكون وخلق الإنسان الراهن والانتقال به من عالم الحيوان والظلام إلى دنيا النور ورحاب المعرفة الإنسانية، وتأكيدها على التآخي والسلام ما بين الناس. إن حكمتهم ترى ان أسمى ما يسعد به الصابئي هو احترام الناس: “رأس غبطتـك ان تحتـرم النــاس” التعاليم المندائية تؤكد على التعامل النزيه مع الناس وتحرم القتل وتقف ضد الحروب وتدعو إلى السلم وإلى الابتعاد عن الركض وراء المال واكتناز الذهب والفضة، وتنادي بالمساواة الكاملة بين الجميع وبين حقوق الرجل والمرأة. أليس في كل هذا ملامح من العدالة والمساواة التي تدعو لها الاشتراكية؟

لقد دعا ماركس الدين “زفرة المحرومين”، فأي تناقض، اذن، بين ان تدعو إلى انعتاق المحرومين (ومنهم المندائيون)، وان تدلهم على الدرب الذي يضمن لهم هذا الانعتاق! واي تناقض بين أن توفر لهؤلاء المحرومين فرصة التنفيس بالزفرة عما يضطرب في صدورهم إلى جانب العمل من أجل خلاصهم من عوامل الاضطراب هذه! لعل من أجمل معالجات الماركسيين في هذا الشأن ما كتبه فردريك أنجلز، رفيق ماركس، عن نضال المسيحيين الأوائل لنشر المسيحية بين اواسط الأرمن وغيرهم في آسيا الصغرى، ونضال الاشتراكين في مساعيهم الأولى لنشر أفكارهم في أوربا.

لقد كان منطقياً أن يتوصل القدامى، مع قصور أدواتهم المعرفية إلى فهم العالم الموضوعي الذي يحيط بهم على نحو ما توصل اليه الأنسان في قرونه المتأخرة، وبالتالي عجزهم عن تبين السبل التي تحررهم من تشابكات العالم وصراعاته. لقد تناول ماركس الدين تناولا موضوعيا كشكل من اشكال الوعي الإنساني كأيديولوجيا برزت وانتشرت في ظروف وبيئات معينة ... لكن نقده انصب على المؤسسة الدينية التي جعلت من نفسها ومعارفها أداة للتبشير بما يخدم خضوع عامة الناس المستضعفين إلى مشيئة المالكين والحاكمين. ولأتنسى أننا ورثنا ما صور لنا المحتلون البريطانيون عن الشيوعية، والا فقادة العراق الأوائل الذين حاربوا الإنجليز كان لهم رأيهم المعاكس تماما بالبلاشفة ولينين. ولأن المندائية توظف معتقداتها في خدمة عامة الناس وليس السلاطين، وتؤكد على معتنقيها بالابتعاد عن السلاطين، كان هذا هو ما قربها من المفكرين العرب الإسلاميين الذين عرفوا بنزعاتهم المتحررة كالفيلسوف ابو بكر الرازي او الشاعر المفكر ابو علاء المعري.

4-هل لا زلت تعتقد بان الفكر الماركسي لازال صالحا لإصلاح الواقع العراقي؟

5-هناك من يقول لنضع صورة ماركس إلى جانب صور العديد من مفكرينا العرب والعراقيين لرؤية المستقبل ما هو رأيك بمثل هذه الطروحات؟

دعني اصارحك القول في ضوء الفوضى الشاملة والتخبط الذي يجري في الواقع العراقي، وغابة الشعارات التي تذهب إلى حد التعارض احيانا، أعتقد ان لا سبيل إلى الخروج إلى بر الأمان واكتشاف السبيل الذي يؤدي إلى التقدم، الا بامتلاك المنهج التحليلي الذي دعا اليه ماركس لفهم هكذا واقع، وتبين العوامل التي تدفع إلى اضطرابه، والمصالح التي تحرك هذه او تلك من المجموعات والوجهات التي تؤدي اليها حركة هذه او تلك من المجموعات، وموقعها من الحركة العامة للمجتمع. الواقع العراقي في حاجة الآن إلى ما يوضح طبيعة الصراعات الجارية، وإلى ما ينزع عنها أرديتها الأيديولوجية للكشف عن المصالح الطبقية التي تحركها، وتمييز تلك التي تدفع إلى تقدم المجتمع. إن ما ينطرح الآن ليس بناء الاشتراكية. لكن ماركس لا يحدثنا عن هذا وحده، وانما هو يدلنا على السبيل الذي يفضي إلى القضاء على كل أشكال الاضطهاد، الطبقي والقومي والديني والاستعماري ... وحين تضطرب الأمور وتغيم المقاصد وراء مختلف الشعارات، ولا تعود الطبقات الفقيرة والمسحوقة والجماعات الدينية والإثنية المضطهدة تتبين طريقها في هذا الجو المتلاطم، يبرز الفكر الماركسي كدليل يقود إلى السبيل الذي يعبر عن مصالح الفقراء والمضطهدين وشغيلة الفكر.

بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوربا الشرقية ترآى للكثيرين ان صفحة الماركسية قد انطوت ... واليوم، وبعد ان مر ما يزيد عن عقد من السنين على ذلك الزلزال الكارثة تبينت كثير من الدعوات ... وبات كثير من الذين ناصبوا الاتحاد السوفيتي العداء يندمون على ما فات. لكن ملايين من البشر تعود إلى ماركس من جديد وتقرأه بعيون فاحصة في ضوء واقعها الحي الملموس، وتتلمس منه سبيلها إلى المستقبل الأفضل، وليس التباكي على “الماضي السعيد”، وتتلمس منه العون للخروج من مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية. إن عراق اليوم، ليس في حاجة إلى لطم الخدود على ماض ولى، وإنما هو في حاجة إلى اكتشاف سبيل المستقبل. وفي ظل المساعي التي تبذلها الاحتكارات الأجنبية، متدرعة بعدة العولمة اللبرالية وآلياتها ومؤسساتها للاستحواذ على خيراته، فان الشعب العراقي أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى استشارة ماركس من جديد وبعين فاحصة ومدققة، كما قلت، في ضوء واقعة الملموس.

6- هل تجد ثمة علاقة بين الدين المندائي ونزعتك المادية؟

7- كيف توفق بين نزعتك الماركسية واهتمامك بالدين المندائي وكتاباتك ومحاضراتك المستمرة عنه؟

8-المسيحيون والمندائيون بدأوا يهربون من موطنهم العراق بفعل تصاعد حدة الاضطهادات التي شملت القتل والاغتصاب ومطالبتهم بدفع الجزية من قبل عصابات دينية متطرفة. ما هو رأيك بعملية النزوح هذه وهل تعتقد بانها ستكون مؤقتة؟

لا احسب أن اي عراقي، غيوراً على وطنه وشعبه وتراثه ومستقبله لا يقلق للحال التي يتعرض فيها كثير من المسيحيين والصابئة للألوان من التضييق والاضطهاد، بما فيها القتل والاغتصاب والابتزاز، مما يدفع بالعديد منهم إلى البحث عن الأمان في الهجرة إلى خارج البلاد. وأنا الذي عانيت، ولا أزال من الغربة منذ ما يزيد عن ربع قرن، أدرك بمرارة، ما يعنيه التشرد والهجرة. من المؤسف، حقا ان أبناء العراق الأوائل، أعني بهم الصابئة والمسيحيين، أحفاد بناة الحضارة العراقية القديمة والذين عاشوا وعمروا بلاد الرافدين، قبل ان يدخلها العرب والمسلمون، يرغمون اليوم على الهجرة عن وطنهم. أن من حق المرء ان يتساءل بأي وجه حق تسمح عصابات تدعي الاسلام، لنفسها ان ترغم أبناء البلاد الأصليين على ترك وطنهم تحت طائلة التهديد بالقتل. ويجري كل هذا في القرن الحادي والعشرين؟ ثم أليست هذه العصابات تخالف بهذا الشرع الذي تدعيه، وهو الذي خاطبهم بقوله “ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”؟ وهل هذه العصابات اعلى نسبا وأشرف قدرا وأكثر إدراكا ومعرفة من امامي الطالبيين، الشريف الرضي والشريف المرتضى، حين حزنا اشد الحزن على الكاتب الوزير أسحاق ابن هلال الصابئي وحين رثياه بأجمل المراثي؟

أنا أدعو كل القوى الخيرة في المجتمع على اختلاف مشاربها، لاسيما اليسار الديموقراطي ان تقف بقوة أكبر في وجه ما يتعرض له الصابئة والمسيحيون من اضطهاد، إن كانت تحرص حقا على إشاعة الديموقراطية في البلاد واطالب الأحزاب السياسية والصحافة والمنابر الأعلام كافة، لاسيما الشيعية ان تجاهر بمعارضتها هذه الممارسات، والتصدي للعصابات التي تمارس التنكيل بالمواطنين الأبرياء وإيقافها عند حدها.

في الجانب المقابل، أقول لأخوتي وأخواتي المسيحيين والصابئة الذين ينشدون الهجرة عن الوطن للخلاص مما يكابدون، ان الهجرة لن تحل المشكلة. فسيتعرض غيرهم للمحنة وان السبيل الوحيد للوقوف في وجه هذا الأجرام هو النضال ضده، ومشاركة من يكافح من اجل الديموقراطية في سعيه. ان هجرتهم قد تضمن سلامتهم، وقد توفر لبعضهم عيشا أفضل ... لكنها ستولد متاعبها المقابلة، وستولد وضعا يجر غيرهم إلى الهجرة حتى وان لم يرغبوا فيها، ولم يتعرضوا إلى ما يدفعهم اليها.

 ما هو رأيك بالدعوات الجديدة للثقافات العراقية المتعددة الاخرى التي تطالب بإزاحة هيمنة مظلة الثقافة العربية قليلا لتجد هذه الثقافات، هي الأخرى، وجه النور الذي حرمت منه لعقود طويلة؟

 دعني اولا، اشير إلى أن لهيمنة الثقافة العربية في العراق عواملها التاريخية الطويلة، اذ تولدت من هيمنة العرب والإسلام على مقدرات البلاد طوال حقب طويلة ظل فيها الأقوام من غير العرب، ومن غير المسلمين يتعرضون إلى التضييق وإلى الاضطهاد وفي ظل هذه الهيمنة الطويلة فرضت اللغة العربية نفسها لا في ميدان الثقافة وحدها، وإنما في التعامل اليومي والحياة الاجتماعية عامة. لقد تمثل العرب المسلمون ثقافات الأقوام الأخرى التي كانت سائدة في البلاد قبل احتلالهم وكسوها برداء من الأيديولوجيا الإسلامية، مضيفين لها ما أبدعوه هم واعادوا فرضها وبسط نفوذهم وهيمنتهم على المجتمع. وبات على المثقف من غير العرب المسلمين ان يسايرهم في هذا وإلا فأنه ينتهي إلى زاوية النسيان ويتوارى. وهكذا انمحت شيئا فشيئا لا الثقافات الخاصة بأقوام العراق الأولى، ومن بينهم الصابئة المندائيون والكلدانيون والآشوريون وحسب، وإنما انمحت ايضا المعالم القومية الأخرى أساسا وباتوا يحسبون في عداد العرب. وأضحى على علماء الأثار ان ينقبوا عن آدابهم في مكتبة آشور بانيبال وغيرها. وفي كتب المندائيين يشار في مواضع عديدة إلى فنونهم الموسيقية التي ما عاد لها أثر اليوم.

ان ازاحة هيمنة الثقافة العربية، ولو قليلا كما تقول لن تتم بمرسوم وإذا شئت الحق فأن الثقافة العربية هي الأخرى باتت تعاني من سلطان الذهنيات المتخلفة التي تدفع بها إلى التحجر، وكذلك مما تحمله العولمة الليبرالية من وافدات ... وليس غير الديموقراطية الحقة من علاج. وفي ظني ان الأبداع في جو ديموقراطي بحق، هو وحده ما يفرض التعدد والازدهار في الثقافة بما في ذلك ثقافة الأقليات ... ولنتمثل، بعد هذا بالقول الصيني: “ دع المئة زهرة تتفتح! “

انصب جهدك خلال السنوات الاخيرة على كتابة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي فأصدرت جزئين وانت تعمل على الجزء الثالث. ما هو الفرق بين كتابك وكتاب الراحل حنا بطاطو عن تاريخ هذا الحزب؟

 عديدون هم الذين سألوني عما يميز كتابي (عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي) عما اورده الأستاذ الراحل حنا بطاطو في كتابه (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق) الذي صدر عن جامعة برينستن بالإنجليزية عام 1978 وترجم إلى العربية بعنوان (العراق). وإذا كان بعضهم خشي التماثل بين العملين فأن الأستاذ بطاطو ذاته قد عبر لي عن ترحيبه بمشروعي، وابدى استعداده لقراءة المسودات وابداء ملاحظاته. ولكن لسوء حظي ان يرحل قبل ان يتحقق له ما اراد. على انني اذكر تأكيده على اهمية ان يبادر الشيوعيون العراقيون ذاتهم إلى كتابة تاريخهم، فأبناء مكة أدرى بشعابها. ثم ان بطاطو يتحدث عنهم حتى منتصف السبعينات في ما يتواصل عملي إلى عقدين تاليين، جرت فيها أحداث خطيرة وإذا كان هو قد نظر إلى الأمر من خارجه فأنا انظر اليه من داخله واتابع حركته الداخلية بما لا يتسع للمراقب الخارجي ان يتابعها وستتيسر لقارئ العملين فرصة الجمع بين النظرتين ليحصل منهما على الرؤية الأدق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* اُجري اللقاء قبل وفاة الرفيق عزيز سباهي ببضعة أشهر

عرض مقالات: