اخر الاخبار

“لقد مشيت في تلك الدرب المسماة طريق التبغ، في صميم فصل الشتاء، ورأيت الناس الجائعين الملتفين بالأسمال البالية يذهبون إلى اللامكان هم الآتون أصلاً من اللامكان، ملتمسين الطعام والدفء، راغبين في أن يعرفوا ما إذا كانت أشياء مثل الطعام والدفء، لا تزال موجودة في بقعة ما من بقاع العالم. إنهم لا يتطلعون إلى ما هو أكثر من ذلك الغذاء الكافي لأن يبقيهم على الحياة حتى مطلع الربيع، بحيث يكون في مقدورهم أن يزرعوا القطن للموسم الجديد. كان لهم من الإيمان بالطبيعة، بالأرض، وبالنبات الذي في الأرض، ما جعلهم لا يفهمون كيف يمكن للأرض أن تخونهم أو تخيب رجاءهم، ولكنها خانتهم وخيبت رجاءهم...”. ليست هذه السطور سوى جزء من التقديم الذي كتبه إرسكين كالدويل لروايته الأشهر “طريق التبغ”، تلك الرواية التي من الواضح أن الكاتب يتحدث فيها عن عالم يعرفه جيداً، عن أناس طبعوا طفولته وصباه. فهو أتى أصلاً من تلك البيئة “البائسة البيضاء” التي كانت تهيمن على مدن الجنوب الفقيرة في الولايات المتحدة الأميركية خلال سنوات القحط.

الحياة في ظل الكساد

ولئن كانت هذه العبارات تبدو حافلة بالأسى والمرارة والغضب، فإن الرواية نفسها على العكس من هذا، تحفل بالمواقف المرحة، ناهيك بالتعاطف الذي يبديه الكاتب حتى مع أكثر الشخصيات شراً، وأكثر المواقف إيلاماً. ومن المؤكد أن هذا ما جعل الرواية تحقق حين صدرت في عام 1932، أي في عز مرحلة الفقر والجوع التي تلت انهيار عام 1929 والكساد الذي نتج من ذلك، نجاحاً كبيراً، إلى درجة أن المسرحية التي اقتبست منها في برودواي، ظلت تعرض ثمانية أعوام متواصلة، مع أنها لم تكن مسرحية موسيقية من النوع الذي كان وحده يحقق مثل ذلك النجاح. غير أن الغريب في الأمر هو أن معظم الذين قرأوا الرواية أو كتبوا عنها، تعاملوا معها كما فعلوا مع تلك الروائع الأكثر تراجيدية التي تناولت في الأدب الأميركي في سنوات الـ30 من القرن الـ20 وبعدها، تلك المرحلة الرهيبة من التاريخ الاجتماعي الأميركي، مرحلة الكساد التي عرت الحلم الأميركي وأصابت الجنوب تراجيديا ما استدعى تعامل الإبداع معها تراجيديا (نصوص جيمس آيجي وويليام فوكنر وكتاب مارتا جيلهورن “رأيت البؤس”، وبخاصة رواية جون شتاينبك “عناقيد الغضب” التي حولها جون فورد إلى فيلم كان من أكثر أفلامه تراجيدية). وفورد نفسه عالج الموضوع ذاته من خلال أفلمته لـ”طريق التبغ” في عام 1941 فإذا به يبدو من أعمق من فهموها إذ عالج موضوعها مدركاً هزليته المطلقة التي أساء كثر فهمها.

لكنه ضحك كالبكا

في نهاية الأمر صاغ إرسكين كالدويل روايته هذه، صياغة هزلية واضحة من خلال رسمه المغالي للشخصيات وللمواقف. والحقيقة أننا لا نتحدث هنا عن “رسم كاريكاتيري” ولكن عن ذلك البعد الذي عبر لنا عنه ذات يوم السينمائي اللبناني الصديق الراحل برهان علوية حين قال مرة إنه لا يشعر في حياته برغبة تدفعه إلى الضحك بقدر ما يشعر بتلك الرغبة تواتيه في الجنازات لا سيما في مجالس التعزية. ومن الواضح أن تلكم هي الرغبة نفسها التي تلوح من خلال تصوير مؤلف “طريق التبغ” للشخصيات الأساسية من روايته، من “رب العائلة” جيتر ليستر إلى الراهبة الأرملة الفطساء. فجيتر الذي يكاد الروسي أوبلوموف يبدو بطلاً للنشاط والعمل مقارنة به لم يتجل نشاطه بأكثر مما تجلى عبر إنجابه 17 ولداً لم يبق منهم في بيت العائلة سوى اثنين فيما اختفى الباقون هرباً أو موتاً. ومن الباقين الفتى ديود ابن الـ16 الذي يعيش في حلم امتلاك سيارة جديدة وهو حلم تحققه له الأرملة الإنجيلية بيسي التي تفوق سنها سنه مرتين ونصف لكنها ورثت 800 دولار ها هي تشتري له بها سيارة سيقودها أياماً قليلة وقد أضحى زوجاً لمن هي أكبر من أمه، فتتوقف السيارة عن العمل.

مشاهد خلابة

عائلة لستر لا تجد ما تقتات به ولا ما يؤمن أي مستقبل أو علم. ومن هنا لن يكون غريباً واحداً من أول مشاهد الرواية حين يصل صهر العائلة لوف المتزوج من الابنة الصغرى ذات الـ12 سنة، حاملاً كيس فجل دفع ثمنه كل ما يملك، فيتفنن أفراد العائلة بمن فيهم الجدة التي لا يتنبه لوجودها أحد، في سرقة حبات الفجل من كيس الصهر. أما الجدة نفسها فكما أن أحداً لا يتنبه إلى وجودها، لن يتنبه أحد بالتالي إلى انسحاقها تحت عجلات سيارة الراهبة والمراهق، بعد أيام قليلة من ذلك المشهد الرائع في مكتب الزواج حيث تقود الراهبة الإنجيلية فتاها لتسجيل زواجهما الذي كانت قد أقسمت أن العناية الإلهية تجلت لها وسمحت به شرط أن يرافقها الفتى بالسيارة التي ستشتريها له في جولاتها التبشيرية! والحقيقة أن كالدويل تمكن عبر مشاهد ومواقف من هذا النوع ملأ بها روايته التي تكاد تكون رغم مأسوية موضوعها وجديته التي عبر عنها الكاتب في التقديم، أكثر الروايات الأميركية احتفالاً بالحياة كما هي وبالجانب المرح من الحياة. الحياة رغم كل شيء. ومن هنا يصنف عادة فيلم جون فورد المقتبس عن هذه الرواية كواحد من الأفلام الكوميدية الأكثر نجاحاً وإنسانية في تاريخ السينما الهوليوودية! وفي مجال التصنيف لا بد من الإشارة هنا إلى أن “مودرن لايبريري” الأميركية التي تعنى بتاريخ الرواية صنفت “طريق التبغ” بوصفها حاملة الرقم 92 بين أفضل 100 رواية كتبت بالإنجليزية في القرن الـ20.

بين الإدانة والحنان

 لقد كانت “طريق التبغ” الرواية الثالثة التي يصدرها إرسكن كالدويل، لكنها كانت هي التي صنعت شهرته الكبيرة –حتى نهايات القرن الـ20 على أي حال، إذ إنه اليوم يبدو منسياً بعض الشيء- ولكن ليس فقط ككاتب، بل ككاتب إنساني لا يحاول في أدبه أن يعطي دروساً في الأخلاق وأن يصنف الناس تبعاً لمواقفهم وأفعالهم. فالناس في روايته هذه -كما حالهم في روايات عديدة أخرى له لعل من أشهرها إلى جانب “طريق التبغ” روايته الرائعة الأخرى “أرض الله الصغيرة”- فقراء وبائسون وخطاة ولصوص، ولا يأبه واحدهم بمصائب الآخر، لكن السؤال يبقى: هل تراهم ولدوا هكذا؟ أو هل تراهم اختاروا بإرادتهم أن يكونوا أشراراً؟ أبداً يقول كالدويل، وهو يقدم لنا عالم روايته المتحلق من حول أسرة جيتر لستر، المزارع البائس الخاطئ الذي أنجبت له زوجته آدا كما أشرنا، 17 ولداً في بيتهم المزري الواقع في خراج بلدة أوغوستا بولاية جورجيا الجنوبية، مات منهم خمسة، وهرب معظم الباقين إلى المدينة: فهناك صهر العائلة لوف بنزي الذي لا يتوقفون عن محاولة سرقته بحيث سرعان ما نفهم أن سرقتهم حبات الفجل ليست محاولتهم الأولى في نهبه من دون تسوية مشكلته مع زوجته ابنتهم بيرل التي تزوجها ومع ذلك ترفض أن تقربه رغم محاولاته التودد إليها، بل حتى لا تتحدث إليه. وهناك تلك الداعية الدينية بيسي التي تقرب من الـ40، وترملت غير مرة بعد أن كانت مومساً، وها هي الآن تغري ابن الأسرة ديود (16 سنة) بالزواج منها مقابل أن تشتري له تلك السيارة التي من المفترض أن يقودها فيتجولان معاً للدعوة إلى الدين. من حول هذا العالم بما فيه من احتيال وقبح (بل حتى قبح بالمعنى الجسدي، حيث تطالعنا الابنة الباقية في بيت جيتر مشوهة الشفة كالأرنب ما ينعكس عليها أخلاقاً شيطانية، كما تطالعنا بيسي بوجه خال من الأنف تقريباً ما يجعلها شبيهة بالخنازير)، ولكن هل ثمة من يحفل بهذا؟ إن “طريق التبغ” ترينا أنه لا أحد يحفل وتقول لنا لماذا، ولكن بأسلوب هو أدنى إلى الفكاهة والتعاطف، ناهيك بالتضافر بين العنف والحنان... تضافراً لا يلغي بالطبع تلك الإدانة التي توجهها رواية إرسكين كالدويل إلى المجتمع معتبرة إياه مسؤولاً عن تلك المصائر بنسفه كل الأحلام التي يكون هو أصلاً من راكمها تحت الاسم الشهير والواعد: الحلم الأميركي. الحلم الذي تكمن المأساة في هزلية انهياره التراجيدي...

ــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 14 حزيران 2023

عرض مقالات: