اخر الاخبار

من يتتبع تاريخ الأحزاب السياسية العريقة في مختلف بلدان العالم وفي بدايتها بلادنا العراق يقف على العلاقة العضوية بين التأريخ والحزب. لكن لنبدأ من توصيف عام لما نسميه بالحزب التأريخي. ان ما يرشدنا اولا الى كون الحزب تاريخيا هو رسوخه في الذهن الجمعي للمجتمع. واذا تحدثنا عن الحزب الشيوعي العراقي تحديداً فأكاد أجزم ان لا يخلو بيت من بيوت المجتمع العراقي من معرفة مهما كان حجمها عن هذا الحزب.

يحظى الحزب ليس فقط بانتشار تنظيماته لتشمل كل محافظات العراق وأقضيته ومؤسساته الطلابية وشرائحه الشبابية والنسوية والمهنية والثقافية لكن ايضا نتحدث هنا عن امتداد الحزب التنظيمي ليمر بأجيال عديدة وتعاطف واسع من مختلف قطاعات المجتمع العراقي العمرية والجندر.

واذا تتبعنا أسباب رسوخ جذور الحزب في المجتمع العراقي نجد ان اولها هو تمثيله الصادق والمخلص للقطاعات الفقيرة والعاملة باليد او بالفكر. ومنها انه يسهم بشكل فاعل في تأسيس وخلق وتطوير الثقافة الوطنية التقدمية والفكر العلمي من خلال اصداراته المستمرة مثل طريق الشعب التي لم تنقطع ابدا رغم مختلف الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي عانى من الحزب وتنظيماته. وكذلك من خلال مجلته الشهيرة الثقافة الجديدة. ويجب الاعتراف هنا ان مجرد النشر والكتابة في هاذين المطبوعين يعتبر فخرا وتشريفا للكاتب رغم ان القائمين على تحريرهما يعلنون دائما انهما ملك لكل الكتاب المثقفين والتقدميين والديمقراطيين بغض النظر عن انتماءهم للحزب او عدمه. أسهم اعلام الحزب بكل مفاصله بترسيخ مكانة الحزب في اذهان الجمهور وقلوب الناس وعقول المثقفين. واذا اردنا ان نعرف ما السر في كل هذا نجد سببين كبيرين. الاول هو التمثيل الحقيقي للناس كل الناس ولاسيما المضطهدين منهم والفقراء والعاملون وغيرهم والسبب الثاني هو انتشاره بين الجماهير وتغلغل افكاره وسياساته وتنظيماته في اعماق التربة الاجتماعية العراقية بمختلف طبقاتها.

 والسمة الاخرى لترسيخ مكانة الحزب والتي جعلته يحظى باحترام وثقة الجماهير هو عنصر النزاهة ونظافة اليد المطلقة. ولعل هذا العنصر يتأتى من الانحدار الطبقي للحزب من جهة والمنطلقات الفكرية التي يتبناها الحزب. فانحداره الطبقي يجعل تنظيماته متكونة من ممثلي الطبقات الثورية المطالبة بالحقوق العامة والخاصة والتي كانت هذه الطبقات أمينةً عليها وخير مدافع عنها. ومن الطبيعي ان تغدو هذه الظاهرة الطاهرة جزءاً من هوية منظمات الحزب العامة وسمة من سماته الملازمة له. من الناحية الفكرية فان فلسفة الحزب وخلفيته الايديولوجية التي هي الاخرى انبثقت منذ أيام مؤسسيها الأوائل لتكون فلسفة علمية للتطور والتحرر الامر الذي يجعل من العمل المخلص الصادق شرطاً للانتماء اليها والتحلي باخلاقها وسلوكها.

يرتبط كذلك تاريخ صعود وهبوط الحالة السياسية في البلاد بمدى سلامة تنظيمات الحزب من الهجمات الفاشية والرجعية. فأينما نجد انتعاشا للحزب ونشاطاته نرى أيضا ان الوضع السياسي العام يمتاز بإيجابيات كثيرة وكبيرة ودورا فاعلاً للدولة ومؤسساتها يرافق ذلك صعوداً للإبداع الثقافي والأدبي والفني وكذلك للعلاقات الاجتماعية العامة المرتبطة بالوضع السياسي القائم. والعكس لذلك صحيح. فقد اقترنت الهجمات الدموية والإعلامية والأمنية على الحزب وكادره وتنظيماته بانحراف خطير للدولة وسياساتها ونهجها العام وتحول دوائرها الأمنية الى شبكات ارهاب وعنف وتخريب. فمولد الحزب كما تنبه لذلك احد الزملاء الاعلاميين تزامن مع بدايات تأسيس وصعود الدولة العراقية وكلما ترسخ شكل الدولة وشيء من مضمونها ينعكس ذلك على أداء الحزب ونشاطه.

ولقد تبنى الحزب منذ ايامه الاولى سياسة تعزيز مكانة الدولة وعملها المؤسساتي لدعم دورها في خدمة المواطنين وعموم المجتمع. وانعكست سياسات الانظمة ضد الحزب لتغدو ضد المجتمع في الوقت الوقت. وفي هذا مصداق لما ذكرناه اعلاه عن الترابط الوثيق بين منظمات الحزب والجماهير وطبقاتها الاجتماعية.

انتعشت تنظيمات الحزب مع الإجراءات الوطنية والتقدمية التي اتخذتها الدولة أيام ثورة 14 تموز 1958 في سنيِّها الأولى والتي دعمها الحزب والتي جاءت اغلبها استجابةً لبرامجه وسياسته ومطالب الجماهير الكادحة التي حددها الحزب ودعمها وقاد النضال من أجلها. وحين انتكست ثورة تموز كان المتضرر الاول منها كل الشعب العراقي وقواه الوطنية وفي مقدمتها الكادحون وممثلهم الحزب الشيوعي العراقي.

وبعد انقلاب 18 تموز عام 1968 ودشنت السلطات انذاك هجماتها الاولى ضد قوى الديمقراطية والتقدم كان للحزب حصة الاسد منها.

وحين التزمت بنهج مقبول من مثل تأميم النفط وإجراءات الاصلاح الزراعي والعلاقات الدولية المنفتحة على المعسكر الاشتراكي كان من الطبيعي ان تهدأ الهجمة على الحزب بل ومدت يدها السلطات انذاك للحزب يوم لم تجد غير الحزب الشيوعى ممثلا حقيقيا للتحولات الديمقراطية والوطنية  فدفع الحزب كل المآسي الى جنب وقبل بقيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي اضفت على الدولة انذاك ومؤسساتها المدنية على وجه الخصوص طابعا وطنيا مدنيا عاما. لكن الحذر كان يشتد كلما اقتربت الدولة من العسكرة وحصر السلطة كاملة بأيادٍ تطلعت الى الانفراد التام بها وتعاملت مع الدولة كأنها مزرعة خاصة وملكية فردية لا منازع لها عليه.

فكان ان رأت تصفية كل ما كان يمكن ان يعتبر إنجازاً وطنيا وكان من الطبيعي ان يتلقى الحزب الضربات القوية لأنه كان المدافع الصلب عنها والمطالب بتعميقها.

واليوم المتنفس المحدود للديمقراطية يفتح المجال واسعا امام نشاط الحزب وفعالياته المتنوعة ليعمل على ترسيخ وتعميق الفضاء الوطني والديمقراطي رغم محدوديته. فعاد الحزب مدافعا اميناً عن كل ما يعود على الجماهير الكادحة وكل الشعب بالنفع المادي والحضاري والثقافي.

ان محدودية نشاط الحزب اليوم تأتي ايضا من محدودية هذا الذي سميناه بالفضاء الديمقراطي.

وكلما اتسعت نشاطات الحزب تتسع معها تأثيراته في الأوساط المدنية والديمقراطية وصولا الى التاثير على السلطة.

ويأتي التزام الحزب بالنهج المدني اضافة الى الوطني والديمقراطي  ليخلق تفاعلا خلاقاً مع المرحلة التاريخية الجديدة التي تهيمن عليها القوى والمفاهيم والثقافات الدينية والعشائرية وسيادة عسكرة المجتمع مما يجعل الشعار البديل لنهج الظلامية والعنف وانتشار السلاح المنظم والمنفلت هو المدنية الوطنية الديمقراطية دون التخلي عن الهوية المركزية للحزب والمتمثلة بهدف العدالة الاجتماعية. وهذا ايضا من علامات تاريخية الحزب.

عرض مقالات: