اخر الاخبار

لم احتمل صبرا، وأنا بين ثنايا تلك التلال الفسيحة، التي غطت سفحها ملايين الأزهار البرية الوادعة، أغلبها صفراء وبعضها حمراء.

قلت ما هذا البهاء، وذلك المرج الزاهي بالحشائش التي تغطي الساق حتى الركبة.

قال صاحبي، وهو أحد المناضلين المعاصرين لذلك الزمن البهي، وهو يغدق عليً بحفنة من المفاجآت اللذيذة:

من هنا انطلقت أعيادنا في مثل هذا الأسبوع قبل اثنين وخمسين عاما.

هنا ترجل شمران من صهوة جواده مُعلنا بدء الاحتفال، هاشا بوجوه الجمع الغفير من المحتفلين، الذي سيتضاعف حين يصل الرفاق من الحي والبشائر والتساعين والدجيلة.

لن يترك الشيوعيون هذه المناسبة دون احتفال، فقد ظلت البهجةُ عنوانا لكل ممارساتهم في الرخاء وفي الضنك، لا يزايد عليهم فيها أحد.

وحين هبطنا من التلةِ باتجاه الغرب سألته: أكان هذا (يشان أبو طَبرة)؟ الذي لاذ به الأبطال حينما كانت السلطة تتقفى آثارهم وهم يواجهون تلك الحصارات بشجاعتهم الباذخة، وببهجاتهم التي لا تقلقها أعتى الهجمات.

بعدها تحدرنا جنوبا، نحو بقايا مدينة واسط الأثرية، حيث كان الشيوعيون يغمرون أرياف الوسط والجنوب ومنها قرى هذه الحاضرة، بعطفهم الثقافي والروحي، فيعلمون الناس معاني الوطنية وحب العراق وقيمة الأسرة والمرأة.

وأخبرني ذلك الصديق أن عشرات المداهمات والمواجهات تعرض لها رعيل الشيوعيين حين كانت خيولهم تسبح بهم في هذه الديار الأليفة إلى أرواحهم حد الانتماء. (أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ

وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ). والسرجُ والكتابُ كانا في صميم مقتضيات النضال حينها.

كنت أرى نفحات أرواحهم وأسمعها وأشمها في تلك الأنهار المندرسة بسبب العطش، حين كانت الأرياف ملاذاتهم الآمنة.

كان آذار بخيره وربيعه يُطهّرُ روحي من ذكريات أولاءك المناضلين والشهداء الذين لم يلمسوا ثمرةً من ثمار حياتهم التي مرت بالعراق وأهله فأنارت لهم بشائر الأمل ومنحتهم شهادات الانتماء للوطن. فقد رحلوا دون أن تكتملَ بقايا نذورهم، وأصبح أيتامهم حطبَ تلك النذور.

كان الريف بالنسبة لي ميدانا حفظ كل ذكريات بلادي مثلما حاولت المدينة أن تقوم بتلك المهمة.

والريف في العراق ليس أرضا وسواقيا ونباتات وقرى، بل هو أرواح تآلفت فتوطنت فيما بينها بشكلٍ  عجيب.. فالشجر كان ملاذا، والخيل دروع، والناس منائر والمنشورات السرية سراجات، والمدارسُ مكاحل للعيون.

كل ما في الريف كان مناضلا على طريقته، وكل ما فيه يزفُ لبعضه بشائر الأمل ونواميس الفرح.

قال أخي رياض، أن الشهيد الباسل (أبو محيسن) وأسمه (محمد العبيدي) على ما أتذكر، كان في زيارة لبيتنا في ريف الدجيلة، وكنت أتبعه راجلا حين يغادر بيتنا لمسافة مناسبة. وإذ رصدنا عن بُعد حركة قد تكون كمينا للأمن، أمرني أن أتوقف وامسك بلجام الفرس انتظارا لإشارة منه، وعندها أضع اللجام على سرج الفرس واتركها لسبيلها.

وحين ابتعد البطل بطريق ملتوي عن المكان الخطر، صفّر لفرسه التي انطلقت بأقصى سرعتها للحاق بسيدها، وعدت لأهلي.

تُرى أية وشيجة ربطت هذا المخلوق بذلك المناضل الهائل. لا يخلو الريف، ولا تخلو المدارس فيه، من كبار التنويريين وأوائلهم، المعلمين، الذين كانوا مفاتيح التنوير والعلم والتحفيز على النضال بأساليب مبسطة بائنة.

في الحادي والثلاثينَ من آذار، إذ يتسيّد الربيعُ كلَّ شيء، أرى صورةَ أبي وصور رفاقه، ربيعا دائما في حضرةِ معلمهم الكبير، الحزب الشيوعي العراقي.