اخر الاخبار

في رواية الأم للروائي الكبير مكسيم غوركي التي تحكي قصة ام من طبقه فقيره، تنخرط في النضال مع الثوار وتكافح من اجل ولدها في المقام الاول، الا انها بعد ان تدرك اهدافه وطموحاته بدأت تتعاطف وتشعر وكأنها تسعى وتناضل مع الجميع، من اجل العمال والفقراء الذين عانوا الظلم، هذا هو دور الام في رواية مكسيم غوركي، اما الام التي سنسرد سيرتها في مقالنا البسيط هذا فهي ام مناضلة عراقية «هويدراويه»، كأي أم مناضلة كبيرة يشار  لها بالبنان ولها الكثير من المواقف التي يعجز الرجال من القيام بها والتي تتقارب مع مواقف الام في رواية مكسيم غوركي، حيث تنخرط في البداية بالنضال بشكل عفوي من أجل ولدها، لكنها وبمرور الزمن اصبحت تعمل مع الجميع ومن اجل الجميع خدمة للوطن العتيد..

 انها المناضلة الراحلة (خيرية علي الشوربة السعدي) التي ولدت في قرية الهويدر، التابعة لمحافظة ديالى عام ١٩٣٣ التي انحدرت من عائلة كادحة امتهنت تجارة الحبوب، حيث كان بيتهم مضيفا عامرا يجاوره طاق جميل يعرف ب (طاق علي الشوربة)، وقد كان بيتهم العامر  مضيفا لتجار الحبوب الذين يأتون من خارج القرية، فيبيتون به حيث الضيافة والخدمة العامرة، ويستمرون في المكوث فيه لحين تصريف بضاعتهم، في هكذا جو كادح  نشأت هذه المرأة المناضلة الراحلة خيرية السعدي (ام محمد)، إلى جانب مجموعه من الأخوات والإخوان ومنهم  أخيها البكر المناضل الشهيد السعيد الرائد (خزعل علي السعدي) أحد ابطال ثورة تموز الخالدة، والذي استشهد في انتفاضة  الكاظمية أثناء مقاومته انقلاب ٨ شباط الأسود، حيث كان احد قادة المقاومة في مدينة الكاظمية المقدسة ،وأستشهد مع رفاقه الأبطال عندما سيطر الانقلابيون على الكاظمية، حيث ضيع جسده الشريف، مع  أجساد رفاقه الابطال في مقابر جماعية مجهولة، وكان هذا العمل الإجرامي هو النواة الاولى للمقابر الجماعية التي ضيعت الآلاف من أبناء شعبنا الابي، لاحقا وتحديدا بعد عام ١٩٨٠م على يد  اعداء الحياة ..أعداء الإنسانية.

بعد اندحار مجرمي انقلاب  شباط الاسود في ١٨/تشرين/١٩٦٣م، على ايدي رفاقهم وشركائهم في العقيدة والسلاح الذين انقلبوا على مبادئهم الجوفاء، لم تمض سوى (٥) سنوات حتى عاد الانقلابيون في ١٧ تموز ١٩٦٨ ولكن هذه المرة بثوب جديد، خدعونا في القوى اليسارية والوطنية، سوقوا أنفسهم كقوة برجوازية وطنيه معادية للاستعمار والرجعية من جانب ومعادية للقوى الوطنية من جانب اخر، وحاولوا الانفتاح على المجتمع والقوى اليسارية وبالخصوص الحزب الشيوعي العراقي، فتم الاتفاق على قانون ميثاق العمل المشترك عام ١٩٧٢م، وتأسيس الجبهة الوطنية والتي تم بموجبها  السماح للحزب الشيوعي العراقي بالعمل العلني، وإصدار جريدة علنية، ومن اليوم الأول للجبهة الوطنية بدأ رجال، الأمن التابع للسلطة مراقبة كوادر وتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، وخلال سنوات الجبهة الوطنية التي استمرت حوالي (٦) سنوات قدم  الحزب الشيوعي نخبة من الشهداء ومن خيرة كوادره اللامعة.

خلال هذه الفترة كانت (ام محمد) توجس  في قلبها خيفة من أصدقاء اليوم أعداء الامس ومن العملية السياسية عامة، بسبب حزنها الأولي على اعدام أخيها  الشهيد المناضل (خزعل السعدي) التي ظل عالقا في ذاكرتها حتى الرمق الاخير،  وقد ارضعت هذه المرأة الكبيرة ابنها البكر(محمد) منذ نعومة أظافره حب الوطن وحب الفقراء والكادحين، وسمحت له الدخول في عالم السياسة وتحت راية الحزب الشيوعي، لكنها ظلت حذره  وخائفة طيلة فترة عمل ولدها محمد في السياسة خصوصا وان القوى التي تقود البلد والمتحالفة معروفة بمعاداتها للقوى الوطنية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي، بعد سنوات قليلة أثبتت نبوءة (ام محمد) صحة مخاوفها، بالإضافة إلى مخاوف طيف كبير من المجتمع العراقي من ان الجبهة الوطنية فخ كبير لكشف تنظيمات الحزب الشيوعي، وتحديد حجمة ومن ثم القضاء عليه، وبعد انفراط الجبهة الوطنية قامت قوى الأمن المجرمة بتفكيك تنظيمات الحزب الشيوعي وتسقيط اعضائه وأخذ تعهدات منهم بعدم  السماح لهم بالعمل السياسي الا تحت لوائه، ولوحة بالإعدام لكل من يخالف إجراءاتها في الانتماء لحزب آخر أو إخفاء معلومات تخص الحزب الشيوعي العراقي، في هذه الفترة الحرجة التحق ولدها محمد بالجامعة، وهناك توصل إلى خيوط في التنظيم الشيوعي عن طريق زميله في الدراسة الجامعية (عمر أحمد أسماعيل) الذي استشهد فيما بعد في مواجهه بطولية عند اطراف مدينة كفري، حيث توطدت العلاقة بينهما وقام محمد خلال تلك المناضلة علي الصعود إلى الجبل عدد من المرات، تعرف خلالها على عدد من الانصاريين الشيوعيين ومنهم الانصاري (عزت)، وهو من القومية الكردية ويسكن في محافظة ديالى (بعقوبة الجديدة)، بعدها قام محمد بمفاتحة عدد من الشيوعيين السابقين من أجل اعادة التنظيم في الداخل، فقام بإيصال بعظ منهم إلى قوات الانصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي، والمرابطة عند قمم جبال كردستان العراق لكن هذا الامر لم يدم طويلا ،حيث تم اعتقال (انور المزوري) ونتيجة التعذيب القاسي ادلى باعترافات كاملة وهو يعرف مسبقا بيت محمد من خلال الزيارات المتكررة له، وتم كشف خيوط التنظيم فقامت قوات الامن في محافظة ديالى بمداهمة بيت محمد لغرض القبض عليه، الا ان الصدفة لعبت دورها اذ كان محمد خارج البيت وتم وقتها تبليغه من قبل السيد (محمد صادق شيبه الطائي)، والذي أبلغه من ان رجال الامن تبحث عنه، عندما التقاه في طريق زراعي ليس ببعيد عن بيته المحاط برجال الامن، وبهذا فقد نجا محمد وبأعجوبة من موت محقق ليلتحق في اليوم التالي بالحزب الشيوعي العراقي وقوات الانصار بشمال العراق، وقد هربه ابن عمه مهدي حسن الشوربة ، بسيارة حمل وخبأه تحت اقفاص الرمان وسلال التمر الهويدراوي المحمل إلى محافظة السليمانية، ليصل بعدها إلى قوات الانصار الشيوعية، بعد عملية هروب محمد بدأت (أم محمد) برحلة جديدة وقاسية في حياتها  قد تكون اقسى واعنف من رحلتها بفقدان أخيها الشهيد (خزعل السعدي).

بعد هروب محمد والتحاقه بقوات الانصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي في شمال الوطن، أصبح بيت (ام محمد) تحت عيون السلطة ومزارا دائما لرجال الامن، باحثين عن اي معلومة توصلهم لولدها الهارب من قبضة الأمن الحديدية، لكن هذه الإجراءات لم تخفها ولم تثنها من تحمل المسؤولية بشجاعة يفقدها الكثير من الرجال، ولم يمنعها من البحث والتحري من اجل الوصول إلى محمد والاطمئنان عليه، لقد استطاعت ام محمد  التعرف على بيت (ام عزت) في بعقوبة الجديدة، فولدها أيضا مطلوب للأمن ملتحق بقوات الانصار الشيوعية، فنشأت علاقه صداقه معهم، وصارت هذه العلاقة سياسية فيما بعد، تمثلت  في نقل البريد الحزبي فكانت ام عزت تستلم البريد الحزبي والمطبوعات من قوات الانصار الشيوعية في الشمال  وتسلمها إلى أم محمد التي تقوم بإيصاله إلى المحطات الحزبية السرية في الداخل..

ظلت (ام محمد) هذه المرأة الشجاعة تصارع العناء والتعب ومواجهة الموت المحقق في سبيل ابنها بل وتتعدى ذلك أشواطا لتحنو على كل من هم في صورة أبنها وكما سنوضح في هذه المأثرة الخالدة،

ففي عام ١٩٨٣ وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية العبثية حيث كان نظام هدام في أوج قوته وعيونه منتشرة في كل مكان، وعلى حين غرة  استقبلت أم محمد في احدى الليالي الشتوية الباردة، وفي بيتها الخاص المقاتل الأنصاري النازل من الجبل (عبد الزهرة عباس العامري)، والذي ارسل من قبل الحزب لأجل اعادة التنظيم ،وبناء فصائل شيوعية مسلحة في بساتين قرية الهويدر، ولكن على الرغم من عيون السلطة التي كانت تراقب بيتها، خبأت هذه المرأة المناضلة عبد الزهرة العامري في بيتها لمدة (٧) أيام متتاليه بالرغم من مخاطر  هذه المهمة المميتة  وبعد انتهاء المهمة التي جاء من أجلها العامري، والتي لم يكتب لها النجاح بسبب العيون المنتشرة، كلفت أحد ابنائها وهو شرطي مرور بإيصال العامري إلى مدينة الخالص ليلتحق بعدها بقوات الانصار شمال العراق.

في عام ١٩٨٥م عندما اشتدت  الهجمة الشرسة على تنظيم الداخل للحزب الشيوعي العراقي، حيث تم كشف ومهاجمة جميع أوكار الحزب في الداخل وبنفس التوقيت وكان (محمد) قد كلف بعد حدوث هذه الكارثة من قيادة الحزب بالنزول للداخل ومعرفة حقيقة ما جرى وكتابة تقرير حول الاحداث، التقى محمد سرآ بوالدته في بغداد فكلفها بالذهاب إلى منطقة جديدة الشط، في محافظة ديالى حيث يوجد هناك مقر قيادة تنظيم المنطقة الوسطى للحزب الشيوعي العراقي وكان  مقر بيت الحاج (صفوك)  والد المناضل الراحل عضو اللجنة المركزية طه صفوك، وقد حملها كلمة السر وبعض الإشارات لكي يتعرفوا عليها، عند وصولها إلى هناك التقت بالحاج صفوك الذي تردد من استقبالها بداية الامر خوفا من أن تكون قد ارسلت من قبل جهات أمنيه، لكن (أم محمد) تمكنت وبشق الأنفس من أقناعهم بأنها مرسلة من قبل الحزب الشيوعي العراقي، فقامت (لينا)  بنت الحاج مخيبر الحاج صفوك بكتابة تقرير كامل عن احداث جديدة الشط ، ومهاجمة رجال الأمن للوكر الحزبي واعتقال مجموعة من الرفاق وتدمير بستان الحاج صفوك بالكامل وأعطته إلى (أم محمد) التي سلمته لولدها محمد الذي اوصله بدوره إلى قيادة الحزب الشيوعي.

وبعد فترة ليست بالقليلة  ترتقي أم محمد  ذرى المجد وتقوم  هذه المرأة بالصعود إلى الجبل لتصل إلى قوات الانصار حيث ولدها وكان اللقاء التاريخي بين الام الحنون وولدها محمد الابن الواعد فكان الحنين والدموع والفرح يتجلى بأجمل صوره، لقد كان صعود أم  محمد الجبل بواسطة احدى النصيرات المرسلة من قبل الحزب الشيوعي العراقي، حيث زارت بيتها في الهويدر واخذت ام محمد معها لمواجهة ولدها في قوات الانصار الذي انقطعت اخباره عنها، بعد زيارتها الاولى قامت بتكرار زياراتها إلى الجبل حيث كانت تقوم بنقل ما تيسر من البريد الحزبي وايصاله إلى الداخل وبالعكس، لكن في احدى زياراتها تم اعتقالها في احدى السيطرات في مدينة حلبجة واحتجزت لمده ٨ ايام في مديرية امن السليمانية ومن ثم تم ترحيلها إلى مديرية امن محافظة ديالى وتمت مساومتها من قبل رجال الأمن الاوباش باختطاف ابنتها الصغرى (فاتن) او الاعتراف بمهمتها لكن صمودها كان بطوليا حير رجال الأمن ما دعاهم لإطلاق سراحها لعدم كفاية الادلة، حيث  لم يعثروا على اي شيئ عندها بعد أخذ تعهد منها بعدم الرجوع إلى شمال العراق ثانية.

بعد سقوط النظام الديكتاتوري في ٩/ ٤ / ٢٠٠٣ بأيام قليلة وبمبادرة من هذه المرأة الشجاعة (أم محمد) أصبح بيتها أول مقر علني للشيوعيين في قرية الهويدر حيث التقى العشرات منهم في بيتها يتقدمهم الرفيق(موفق الشيباني)  عضو محلية ديالى أمد الله في عمره وتباحثوا في كيفية احياء تنظيم الحزب الشيوعي من جديد بشكل علني في ربوع هذه القرية المعطاء والتي لطالما لقبت (بموسكو الصغرى) لكثرة  الشيوعيين  والموالين لهم فيها، فكان حضورهم يحظى بترحاب وتهليل من قبل (ام محمد) التي اجادت بتقديم الشاي المهيل مع الكليجة العراقية الفاخرة وبعد ان عادت الابتسامة على محياها الجميل بعد ان هجرتها منذ شباط الأسود ١٩٦٣.

بتاريخ ١٩/٨/٢٠١١ غادرت هذه المناضلة الكبيرة الرائعة مسرح الحياة إلى دار الخلود لتسجل أروع ملاحم البطولة والفداء وتكون أما يحتذى بها حملت كل معاني الإنسانية والأمومة الرائعة، لقد توقف ذلك القلب الكبير الذي ملئ حنينا وحبا للوطن  بعد تعب وعناء وعطاء كبير، حيث فقدان الاحبة وفراقهم أوجع قلبها الذي لازمه المرض والسقم، لقد أعطت هذه الام المناضلة الغالي والرخيص للحزب والوطن وهي تحمل روحها على راحتيها عندما  جازفت من أجل الوصول إلى ولدها ...وفي نهاية المطاف وجدت نفسها  منخرطة في صفوف الحزب تناضل مع الجميع ومن اجل الجميع رغم اجواء العنف والاضطهاد والجبروت البعثي الصدامي... ايها الام المناضلة الراحلة إلى الأصقاع البعيدة دون رجعة، نامي قريرة العين فزرعك قد أثمر ونبتك قد على... لقد كنت دائما في محاجر العيون وشغاف القلوب...سلام عليك مناضلة عتيدة وأم حنونة  تحملين كل معاني الإنسانية والوطنية...وسلام عليك راحلة إلى دار الخلود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة.. المعلومات والاحداث الواردة بالنشر حول (ام محمد) مأخوذة من عائلتها.

عرض مقالات: