اخر الاخبار

للسنة الثالثة على التوالي، أحيت بعض الصحف والمجلات الأمريكية ذكرى كومونة سانت لويس والانتفاضة العمالية العظمى التي اشتعلت في الولايات المتحدة الأمريكية في تموز 1877. وبدأ الحديث أيضاً في بعض الأوساط الأمريكية عن الانتفاضة العمالية التي ستشتعل في أمريكا في المستقبل القريب.

في عام 1877، أضرب مليون عامل أمريكي، وحاربوا الشرطة والقوات الفيدرالية عبر أمريكا. وكتبت بعض الصحافة في ذلك الوقت أن أسماء «الإضراب العظيم» و«الإضراب الكبير للسكك الحديدية» تصور كيف أوشكت الولايات المتحدة الأمريكية أن تغرق في حرب أهلية ثانية، وبشكل آخر هذه المرة: عبر صراع العمال ضد رأس المال.

بدأ الإضراب الأول في تلك الفترة بشكل متواضع جداً. ولكن من هذه الشرارة الصغيرة اندلع لهيب عظيم. ففي يوم 16 تموز 1877 أضرب 40 عاملاً من عمال السكك الحديدية احتجاجاً على خفض الأجور وأغلقوا السكك الحديدية في مارتينسبورغ، فيرجينيا الغربية. وكان لهذا الحدث الصغير تأثير الدومينو، حيث انتشر التمرد كالنار في القش بين الطبقة العاملة الأمريكية. وبحلول نهاية شهر تموز 1877، توقف مليون عامل عن العمل في المدن الصناعية عبر أربع عشرة ولاية، من مدينة نيويورك إلى سان فرانسيسكو.

كانت هذه الانتفاضة أول انتفاضة عمالية ضد الرأسمالية الأمريكية، ومن قلب الظروف التي نشأت بعد الانتفاضة نفسها بعد عدة سنوات، انبثق أول حزب عمالي في تاريخ أمريكا.

شنت الرأسمالية الأمريكية ضد العمال حرباً طبقية عنيفة غير مسبوقة منذ الحرب الأهلية التي توقفت عام 1865. وقد أطلق بعض المؤرخين عليها اسم الحرب الأهلية الثانية، أو أزمة مرحلة إعادة الإعمار. حيث غرقت الرأسمالية في الاستثمار الوحشي للعمال.

كانت النقابات قوة هامشية في المدن الصناعية السريعة في الشمال، وتحمل العمال ساعات طويلة وأجوراً بخسة، مع حقوق قليلة في العمل. واستمر رؤساؤهم اللصوص في تقليص رواتب العمال بعد ذعر عام 1873، وهو أسوأ كساد مالي في التاريخ الأمريكي حتى تلك اللحظة.

وصل الوضع إلى نقطة الغليان في عام 1877، حيث تواطأ أصحاب السكك الحديدية لخفض أجور العمال مرتين، على الرغم من جني أرباح ضخمة. وكان أداء المساهمين والمديرين على ما يرام، ولكن تم تخفيض أجور العمال بما يصل إلى النصف.

وهكذا أطلق إضراب عمال سكة حديد مارتينسبيرغ عن غير قصد الإضرابات العظيمة، حيث أضربوا ضد التخفيض الثالث للأجور، وبدأوا في فصل عربات القطار لإبقائها في حالة توقف تام. انتقل الإضراب من الشرق إلى الغرب على طول طرق السكك الحديدية المهمة في الشمال. ولم يكن المضربون من عمال سكك حديدية فقط. إذ خرج آخرون من العمل تضامناً شمل عمّال المناجم والنقل والصناعات الغذائية والخشبية وعمال السفن البحرية والنهرية والجزارين والخبازين في فرجينيا الغربية وشيكاغو ومدن أخرى. وفي بيتسبرغ، أضرمت النيران في القطارات وساحات السكك الحديدية، وفي سانت لويس، تولى ائتلاف من المضربين المنظمين– كومونة سانت لويس كومونة- السلطة لحوالي أربع وعشرين ساعة.

لقد ذعرت الأوليغارشية الأمريكية لدرجة أنهم اعتبروا الحدث تكراراً لكومونة باريس التي حدثت قبل سنوات فقط. وخيم شبح الحرب الأهلية الثانية على أمريكا. وخافت الرأسمالية الأمريكية لأول مرة من كلمة «شيوعيين واشتراكيين». ونظم الرأسماليون جيشاً من المرتزقة والمجرمين بتمويل رجال الأعمال الأثرياء، وزجوا أيضا بوحدات ضخمة من الجيش والحرس الوطني والشرطة لسحق انتفاضة العمال. وعندما لم يتمكن الصناعيون من الضغط على العمال للعودة إلى العمل، دعوا السياسيين إلى استخدام عنف الدولة وكان حاكم ولاية فرجينيا الغربية أول من استدعى القوات.

دارت معارك عنيفة في شوارع شيكاغو ونيويورك وبيتسبرغ، ولم يميز الرأسماليون بين المضربين وبين الأطفال والنساء. وانضمت أعداد كبيرة من الناس إلى الانتفاضة.

وكانت معركة جسر شيكاغو واحدة من أعنف المعارك التي حدثت، حيث واجهت الشرطة 10 آلاف عامل، وبتاريخ 23 تموز 1877، في الليلة التي سبقت موجة الإضراب التي ضربت شيكاغو، ألقى ألبرت بارسونز خطاباً نارياً على حوالي ثلاثين ألف عامل جائع مستعدين لاتخاذ الإجراءات. في اليوم التالي، خرج الآلاف من العمال الغاضبين في شوارع شيكاغو، وانتشرت أعمال العنف التي شلت المدينة وبلغت ذروتها يوم 26 تموز.

هزمت هذه الحركة لأنها واجهت 60 ألفاً من الجيش المزود بأسلحة حديثة، بينما قاتل العمال ببطولة في الشوارع بالحجارة والبنادق القديمة. قتل المئات وجرح آلاف العمال، وفقد آلاف آخرون أعمالهم. وجرى تخفيض أجور جميع العمال. أي هزم العمال في النهاية. ولكنههم أعطوا دفعاً عظيماً للحركة العمالية التي تمثلت في مظاهرات أيار 1886 في شيكاغو.

حدث في سانت لويس شيء آخر. إذ نشأت فيها كومونة منعت أعمال العنف، وحاولت السير بالحركة باتجاه آخر، ونجحت في السيطرة على الوضع لمدة 24 ساعة، ولكنها سحقت بالقوة هي الأخرى.

يستعيد الأمريكيون ذكرى هذه الانتفاضة في هذه الأيام، ويحذرون في الوقت نفسه من اندلاع انتفاضة عمالية مشابهة في المستقبل. ولكن يبدو أن الأمريكيين لم يفهموا الدرس الأساس من هذا التاريخ الذي هو درس كومونة سانت لويس حول العنف.

قد تندلع حرب أهلية عنيفة إلى حد كبير في الولايات المتحدة في المستقبل بسبب خصائص الوضع الأمريكي حالياً، كما يدرك كثير من الأمريكيين هذا الاحتمال. ولكن هذا ملعب الرأسمالية الأمريكية التاريخي الذي يجهض الحركة العمالية. وخاصة في حال غياب التنظيم والأحزاب العمالية الجدية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

“قاسيون” 1 آب 2022

عرض مقالات: