اخر الاخبار

لم تكن ثورة 14 تموز حدثا عابرا في تاريخ العراق الحديث  وتاريخ المنطقة وحسب ، إنما كانت نقلة نوعية في حياة شعبه ، وضربة قاسية لمخططات الاستعمار القديم في تغيير خارطة الشرق الأوسط، وهي الحركة الثورية الوحيدة التي لم تكن تحت مجهر المخابرات الأجنبية، وقد لاقت هذه الثورة تأييدا شعبيا عفويا وتأييدا منظما لأنها أزاحت عن هذا البلد اثقال الاستعمار الاستيطاني ونواياه الخبيثة، وقد بدأت الثورة منذ أيامها الأولى تخطط لمستقبل واعد لعراق حديث، وكان عليها قبل كل شئ التخلص من قيود الحقبة السابقة، لذا فقد تصدت لحلف بغداد واعلنت خروج العراق من هذا الحلف الذي تلاشى بعد إعلان بغداد العظيم، فأقام العراق علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية والصين وحلت سفارات هذه الدول ضيوفا على العراق لأول مرة ( حيث كانت بريطانيا  لا تسمح للعراق بالانفتاح على هذه الدول) وبعد الثورة أخذ العراق سياسيا يؤيد مقررات مؤتمر باندونج للحياد الإيجابي ، وأخذ يناصر حركات التحرر في العالم ، إذ قام بتأييد الثورة في كوبا ضد الديكتاتور باتيستا ، ووقف إلى جانب الثورة الفلسطينية فساعد على إقامة منظمة التحرير الفلسطينية ودعمها بالمال والسلاح، ووقف إلى جانب ثورة الجزائر، أما في مجال الاقتصاد الدولي، فقد تحرر العراق لأول مرة من منطقة الاسترليني ، وإن ثورة تموز كانت وراء تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفطOPEC ، فقد تم عقد المؤتمر التأسيسي للمنظمة في بغداد في 14 أيلول 1960، وكان إعلان بغداد مدويا للدفاع عن مصالح الشعوب النفطية تجاه الكارتلات النفطية الاستعمارية آنذاك، وفي مجال النفط أيضا باعتباره مصدر الثروة والتنمية فقد قامت ثورة تموز بعد صراع مرير مع الشركات النفطية الأجنبية (وهي شركات كانت مستحوذة على كل الحقول النفطية) قامت الثورة بإصدار قانون رقم 80 لعام 1961 الذي تحددت بموجبه الحقول التي تعمل فيها الشركات الأجنبية، وما عداها فهو من اختصاص شركة النفط الوطنية التي تم تأسيسها فيما بعد لتكون المستثمر الوطني المنافس للشركات الأجنبية، والتي تم تعطيل خبراتها الطويلة في الآونة الأخيرة لقاء عقود التراخيص الرخيصة والسارقة لأموال البلاد.

إن الثورة والمنظمات الوطنية المساندة كانت تتمتع بكفاءة الأداء وسعة الأفق الاقتصادي ونظافة اليد، وهذه كلها عوامل ساعدت خلال أربعة اعوام من عمر الثورة على تحقيق منجزات لا زالت آثارها  شاخصة حتى اليوم ، فقد انصفت الثورة الفلاحين الفقراء عن طريق تفتيت الملكية الزراعية على وفق قانون الإصلاح الزراعي الذي حول ما نسبته 80 بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة من الاقطاعيين إلى أولئك الفلاحين ، وتم في ضوء ذلك تأسيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية لغرض تنظيم عمليات الإنتاج والتسويق الزراعي ، وقد تم في مطلع الثورة تأسيس نقابات العمال والنقابات المهنية الأخرى وفي المقدمة نقابة الصحفيين العراقيين وكان أول نقيب لها المرحوم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وقامت الثورة للمساعدة في التنمية الاقتصادية في تحويل خطوط السكك الحديدية من الخطوط المتربة القديمة إلى الخطوط العريضة، وقامت ببناء المصانع وتوزيعها على المحافظات، ولا زالت هذه المصانع شاخصة رغم العداء الموجه لها من قبل حكام بغداد اليوم، وفي مجال الطرق والجسور، فقد قامت الثورة بإنشاء العديد من الطرق والجسور في بغداد والمحافظات، ومنها خط قناة الجيش السريع الشاخص حتى هذه اللحظة والمتميز بسعة خطوطه ومساراته ودقة إنجازه على يد الجيش العراقي الباسل، وعملت الثورة على التغيير في كل مجالات الحياة ، فقد انشأت بناية جامعة بغداد الرصينة في الجادرية، وأسست المدارس في عموم البلاد وأسست للإسكان الشعبي ووزعت الأراضي السكنية، وأسست على سبيل المثال مدينة الثورة وعملت على نقل سكنة اهل الصرائف المنتشرين بين الأحياء السكنية في بغداد الى هذه المدينة ومدتهم بالمساعدة في البناء والتشييد وامنت لهم الماء والكهرباء والخدمات الطبية والتعليمية ، وفي مجال الصحة قامت الثورة في إنشاء العديد من المستشفيات الكبيرة في بغداد والمحافظات ومنها مدينة الطب الشاخصة اليوم في منطقة الباب المعظم والمطلة على نهر دجلة المنكوب اليوم بضحالة مياهه .

إننا هنا لا نود أن نستعرض كل المنجزات لأنها كثيرة جدا، رغم أن عائدات الخزينة لم تكن بما يعود لها اليوم من أموال طائلة كان يمكن لقادة تموز أن يوظفوها ليجعلوا من العراق دولة في مصاف الدول المتقدمة، وهنا تبرز العلاقة بين النخبة الحاكمة وبين الناس، فقادة تموز كانوا ثوارا بحق على الأوضاع القائمة آنذاك، وكانوا يعملون بأيادي نظيفة جدا، وينقل جاسم العزاوي في كتابه ثورة 14 تموز، وهو كان سكرتيرا للزعيم عبد الكريم قاسم ، (وهو ممن ساعد الانقلابيين في شباط الاسود من التمكن من الزعيم أي أنه كان ضد الزعيم لكنه تكلم عن نزاهته بأمانة) أن للزعيم نثرية كرئيس للوزراء مقدارها 40 دينار شهريا وهي محفوظة في قاصة المكتب، وأن هذه النثرية لم يصرف منها الزعيم أي مبلغ، وأنه صرفها مرة واحدة فقط، عندما زار المنطقة العسكرية في الكرنتينة في أحد اعياد الفطر وكنت برفقته وبعد أن عزفت فرقة موسيقى الجيش السلام الجمهوري بحضوره اوعز بتقسيم المبلغ على أعضاء الفرقة عيدية لهم، هذه المرة فقط تم صرف هذه النثرية، فالرجل كان يصرف من ماله الخاص، وأبى أن يأخذ راتب ضابط برتبة زعيم وراتب كرئيس للوزراء بل اكتفى براتب واحد، هذه هي علامة النزاهة وتلك هي ابعاد الوطنية، قيادة نزيهة وطنية خلصت العراق من براثن التبعية للأجنبي، وتلك هي المنجزات شاخصة حتى اليوم، وتلكم اليد التي أبت على الدوام إلا أن تكون يدا ناصعة بالبيضاء، تضع توقيعها على اخطر القوانين، وتؤسس لأوسع المنظمات الاقتصادية الدولية، وتبني للفقراء، والسؤال موصول لكل مسؤول تصدى للحكم بعد عام 2003 ، لماذا أنتم تجاوزتم على المحظور وتخطيتم الأصول ؟  وها هي علامات تموز باقية واضحة لا تزول، والحليم تكفيه الإشارة لا قرع الطبول.