اخر الاخبار

الشهيد وسام المخابر

وسام المخابر، هادئ وناعم الطباع، متيقظ وقليل الكلام، يكره (الجاجي والحمص) مثلنا!، ويعشق لعبة كرة الطائرة. جاء من بلد (العجائب)، متزودا بذخائر الأصالة والخيال البدوي، ومستلهما الشجاعة في الدفاع عن حقوق المظلومين، لكنّ الجبل لا يعترف بصديق، ولا يستثني قريبا، ولا يردّ الجميل، وهكذا كان مع وسام، شديد اللؤم والعقاب.

في الأيام الأخيرة، وبعد أن حاصرتنا الدبابات، كان يمزح معنا بكامرته الخفية!، (من الذي ورد أسمه في قائمة المغادرين إلى خارج العراق؟!).، لكنّهُ ما أن عبرَ الحدود، حتى استفحل عليه الوهن واشتدّ فيه الشرود، فذهب من فوره إلى مشفى مدينة (جارجو) في تركمانستان.

لم يعثروا على علاج للأرتجاج الذي سببته الانفجارات العنيفة في رأسه، فغادر (جارجو) متوجها إلى موسكو. ويومان آخران، وفي ليلة ثلجية عاصفة، ودعنا النصير وسام مناضلا وشهيدا.

الشهيدان علي ابراهيم وصباح مشرف.. (أجمل سنوات العمر كانت معهما)

كانت أكواخ قرية (سيريا) تتراءى وكأنها كتيبة جنود تعرضت إلى هزيمة، امّا الصخور والمغارات والممرات، فتوحي كما لو انّ المخلوقات الخرافية، التي مثلتها الميثولوجيا الرومانية، استقرت في هذا المكان وتركت آثارها فيه.

في بابها الحجري شجرة جوز كبيرة خضراء ومثمرة، يمرُّ تحت جذعها ينبوع ماء يتلوى كأفعى، ولولا عدم وجود (الختم التوراتي) لظنّ الناس انّ المكان لآدم وحواء والحيّة!

عندما تسلقت إليها من نهر (الشين)، وكنتُ قادما من (قنديل)، استقبلني مهدي بكل حفاوة وكرم القروي، قال: (أنا لا أحبُّ السلاح، وأكره القنابل، وباب بيتي مفتوح للجميع).

أنا أيضا لا أحبُّ السلاح، وأكره مشهد الطائرات وهي ترمي جبل (كَارة) بغاز الأعصاب، أنا أحبُّ المساءات الفراتية، وأحب حكايات وتراتيل المعابد، حيث ديانا تسرق من القمر الشعلة الاولى!

في تلك السنوات الشحيحة، دائما ما نلجأ للذكريات، إلى الكتب المدرسية والجمّار وخزامات (بنت الندّاف)، فيضحك صباح مشرف (وضّاح)، قهقهتهُ مميزة، مازال صداها يتردد في وادي بشتاشان، الذي كنت أقطعهُ وإياه ذهابا وإيابا كل يوم قبل وجبة العشاء. نتذكر المدينة والوجوه والصحراء (وبنات المكلا) !، (نتذكر اشكَد ضحكنا واشكَد عشكَنا واشكَد تمرمرنا)، نتذكر علي ابراهيم، ابتسامته، ملامح وجهه التي لا تغيب، حركاته الفريدة وهو يتوسطنا في (مقهى ابو حنان)، نتخيلهُ يجلس على صخرة في قرية (ورته) وهو يتلوى حتى الموت بسبب الثاليوم!

الشهيد قيس كاظم

مازال صغير السنّ، وأسمه الحقيقي قيس كامل عبد العال، لكن الأعراف الريفية شاءت أن يأخذ اسم عمه. شقيقهُ الشيوعي حميد كامل هو الآخر اغتالته المخابرات العراقية في وقت سابق ببيروت، ولم نعثر على ايّ أثر يدلنا على مشروعه الروائي (طيور السنونو البيض)!

هو من أقاربي، وقريتهم (البو خضير) لا تبعد عن قريتنا (البيضان) أكثر من كيلومترين، وهناك على (شط الكسر) ووسط العشب والأثل، نمت أحلامنا، كنّا فرحين مع طيور (الحجل والكَطا والحذاف)، لكنّ المدينة قلبت كل الاهتمامات ووضعتنا على سكة المغامرة!

عمه هادي عبد العال يثير الأسئلة والمواجع كلما زرته في بيته، فالتفاصيل غير واضحة منذ أن غادر قيس الناصرية إلى بيروت، وكل الذي نعرفه انّ قيس دخل الأراضي التركية للألتحاق بحركة الانصار، لكنه لم يصل، لقد ألقت قوات الجندرمة القبض عليه وسلمته إلى الأجهزة العراقية التي لا تجيد سوى القتل.

لم يكن قيس الوحيد الذي واجه هذا المصير، بل العشرات من الأنصار الذين ابتلعهم (الثقب الأسود) على الحدود، ولكل منهم قصة مع الرصاص أو الأقبية المظلمة.

في ملجأ واحد مع الشهيد ملازم شيرزاد

في صيف 1988، تعرض مزاجنا الثوري للإنكسار، كثير من الأحلام والأمتعة دفناها في (وادي خوا كورك) الذي كنّا نعتقد انه محروس بسور سليمان!

صمدنا لمدة 52 يوما فوق قمة (قبر زاهر) التي تقع تحت تأثير منخفض جوي لا يهدأ أبدا، قمة عجيبة، عالمها غريب، لياليها كابوسية مليئة بالجوع والوحشة والخوف، أرضٌ يباب، لا ينبت فيها شجر ولا يمر بها طير.

عندما شعرنا بعدم قدرتنا على البقاء في العراء وفوق رؤوسنا تحوم (الهوكر هنتر)، انسحبنا إلى الجهة الأخرى من الحدود، إلى الوادي الخالي من التأملات (دولى كوكه)، وفي هذا المكان الذي مكثنا فيه حتى سنة 1990، إلتقيت بالشهيد ملازم شيرزاد. سألته عن (كوب تبه)، عن قلاع كويسنجق وحصونها ومزاراتها، عدنا إلى اليمن السعيد نبحث عن اشياء كثيرة تركناها هناك، ثم أخذنا الواهس، فتسلقنا السفح إلى قمة (صادر) لنمنع تسلل الجحوش.

ولمّا هبط الليل، هبط معه الموت، وهبطت قنابل الراجمات وصواريخ الهاوتزر. تفجر الجبل وتطايرت الصخور واحترقت الذكريات. احتضنّا بعضنا في ملجأ ضيق لا يتسع لأثنين، ولم نصدق إنّنا نجونا، لكن شيرزاد حاول أن يعيد عقارب الساعة، فقاتل حتى الموت وببسالة نادرة دفاعا عن انتفاضة شعبه في 1991.

عرض مقالات: