اخر الاخبار

لم يكد الوضع يستقر لصالح ثورة الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨، حتى بادرت جهات متعددة للتصدي لمبادئ هذه الثورة أو تضع بشتى السبل العراقيل أمام تحقيق أهدافها وفي المقدمة رفع مستوى الفقراء والمعدمين ، وفي البداية تصدت الثورة لظلم الإقطاع بإصدارها قانون الإصلاح الزراعي الذي فتت الملكية الزراعية،  وأعاد الحق للفلاح الأجير بأجر الكفاف، وقد كان الاقطاعيون في ظل دولة العشيرة الممتدة من التأسيس حتى يوم الثورة يستحوذون على ٨٠ ٪ من الأراضي الزراعية ، وقد تبنت الثورة قوانين رفع المستوى المعيشي لعموم الناس بدءا من الموظف الصغير وصولا إلى إقامة المدن والضواحي السكنية لأصحاب الصرائف أو المدن العمالية، مما أثار حفيظة الإقطاع، او أصحاب الرأسمال الاقطاعي الفاعل في المدن  أو اتباع البعث أو عملاء مصر الناصرية آنذاك ، ليشكل هذا الخليط تجانسا تدعمه أقلية البرجوازية العسكرية، والكل دعمته قوى غربية تفاجأت بثورة ١٤ تموز ومنجزاتها أو قياداتها التي حققت ما هو غريب على المألوف آنذاك مثل قانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٦١ الذي عدته قوى الغرب الاستعماري تجاوزا على ثوابت استغلال الشركات لخيرات الشعوب في الدول النفطية، أو قيام الثورة بخرق قواعد واصول تسويق النفط واحتكار مناشئه أو أسواقه، وذلك بالدعوة لعقد مؤتمر تأسيسي في بغداد لإقامة منظمة تضم الدول المنتجة للنفط وتوحد سياساتها التسويقية والتصديرية، وقد تمخض مؤتمر بغداد هذا عن ولادة منظمة أوبك، منظمة الاقطار المصدرة للنفط، وكانت هذه الخطوة بمثابة السهم الذي أصاب الكارتل النفطي العالمي بمقتل، وظلت هذه المنظمة ولا زالت حتى هذه اللحظة توجه السياسات النفطية وفق مصالح الدول المصدرة، وكانت هذه الخطوة قد قصرت من عمر الثورة وعملت على توحيد إعدائها، للإطاحة بها سيما وأنها ثورة فتحت الأبواب المغلقة مع الشرق الاشتراكي والصين الشعبية، وتعاونت مع السوفييت في كسر احتكار السلاح وبناء المصانع أو مد السكك الحديدية أو قيام النقابات العمالية والمهنية الأخرى، أو معاداة الثورة للأمية وجعل الصحة والتعليم مجانا ، او أن الثورة أوجدت للصحافة منبرا حرا وتشكلت في عهدها أول نقابة الصحفيين العراقيين، وأول منظمة نسوية تدافع عن حقوق المرأة بتشكيل رابطة المرأة العراقية، وفي الميدان العربي تسابقت الثورة مع الزمن للدفع بالقضية الفلسطينية إلى الواجهة وكانت أول من وضع فكرة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وساعدت أحمد الشقيري والقادة الفلسطينيين من خلال العراق للدخول بالقضية الفلسطينية إلى عالم الحوار والدبلوماسية، ووقفت موقف الثوار الحقيقيين وراء ثورة الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي ومدت ثورته بالمال والسلاح، وكانت وراء دفع فرنسا لتوقيع معاهدة ايفيان التي نالت بموجبها الجزائر استقلالها الناجز. وكان للثورة دورها في تأجيج حركة التحرر في العالم، وبفضل الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي إلا وهو حق تقرير المصير للشعوب والدول المستعمرة.

ان ما ذكرناه من منجزات كان جزءا من الكثير من المنجزات التي قامت بها الثورة والتي وحدت صفوف أعدائها ونظمت أمور الخليط المتضرر ليقوم بفعل الأقلية العسكرية ذات الولاء العشائري أو المنظور العنصري للانقلاب على الثورة في الثامن من شباط الاسود عام ١٩٦٣ بتأييد مباشر ومفضوح من قبل الولايات المتحدة الأمريكية (حسب تصريحات امين سر القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك) علي صالح السعدي، حين قال جئنا بقطار امريكي ، ويقال عن حميد خلخال قوله وبعجلات بريطانية.

إن هذا الانقلاب والبيان رقم ١٣ الصادر عن اللواء رشيد مصلح التكريتي الحاكم العسكري العام، تحت عنوان إبادة الشيوعيين، كان بمثابة ردة فعل الغرب والكارتل النفطي تجاه الثورة وقادتها، وكان بمثابة عملية قتل لشعب تاق إلى الحرية، ولبلد غني أعاد حقوقه من يد الشركات المستغلة، وساعد الغير المظلوم على إعلان مظلوميته أمام الملأ.

ان الانقلاب كان بداية لدولة العسكر التي ظلت تتداول الحكم بالانقلابات العسكرية، وصولا إلى دولة المنظمة السرية التي قادها البعث بانقلابه الثاني عام ١٩٦٨، ليبدأ حكم الديكتاتور الاوحد ومنظمة حنين وحروبه مع شعب كردستان أو اغتيالاته المستمرة للقوى الوطنية التقدمية،  أو حروبه مع الجار الإيراني او العرب في الكويت ، وما تلا هذه الحروب من احتلال امريكي بغيض للعراق وتدمير مرتكزاته الاقتصادية وبناه التحتية، أو ما تلا الاحتلال من دور للاستلام والتسليم للسلطة لصالح احزاب أو فئات أو زعامات جاءت مع المحتل لتقيم هذه المرة الدولة العميقة، فإذا كانت دولة المنظمة السرية قد عملت جهدها لتقوية الدولة الرسمية لتحتمي بها ، فإن الدولة العميقة تعمل الان على إضعاف الدولة الرسمية لتكون اقوى منها ممهدة السبيل للانقضاض عليها حيث ما تشاء ووقتما تشاء ، كل ذلك جاء بفعل انقلاب شباط الاسود وتوابعه والحكومات الفاشلة التي قامت في أثره والتي تركت العراق مسلوب الإرادة ضعيفا تتقاسم مصيره كثيرا من الدول، وجعلت منه دولة مريضة تئن من وطأة أمراضها المستعصية والمزمنة،  والتي لا يمكن معها ان يستعيد العراق عافيته في المستقبل المنظور..