اخر الاخبار

في الذكرى الرابعة والأربعين لرحيل الأب الكريم (شمران الياسري – أبوگاطع)، نُحصي ثروته التي تركها لنا، وهي: اسمه وما أبدع في مقالاته الصحفية وصوته الإذاعي المميز وروايته الجميلة (الزناد).

فقد كانت (الزناد) وثيقة باذخة في رصد أحوال العراق وطبقاته، المسحوقة والمتجبّرة، والناس البسطاء الذين ثاروا أخيرا على الإقطاع والظلم.

اختار (شمران الياسري) في روايته البطل (حسين) رمزا للقوة والصبر والحكمة، في تلميحٍ واضحٍ إلى شخصية الإمام الحسين عليه السلام، وبطولته وإبائه ورفضه للظلم. وقد ظلت هذه الشخصية صامدة بوجه الزيف والخضوع وظلم الإقطاع، حتى مات كمدا على ولده (ناصر) الذي استشهد في معركة العمال ضد الاستعمار في كاورباغي في كركوك. وحتى تسمية حسين لولده ناصر هي تسمية شائعة لدى العراقيين، إذ يسمي العديد من العراقيين ممن أسماؤهم (حسين) أولادهم باسم (ناصر) حتى يُفهم منها أنه تمنى أن يكون ناصرا للإمام الحسين (ع).

في خطٍ موازٍ لهذه الشخصية، كان البطل (خلف)، الذي تستمر شخصيته أو شخصية أولاده في رواية (الزناد) الخماسية حتى تنتصر قضية (حمزة الخلف) كما ختمها شمران الياسري، حين تبدلت قضية حمزة ابن البطل خلف من حفر ساقية لأرضه إلى قضية وطن.

فحين كان معتقلا لدى الحرس القومي، زاره صديقه صاحب الفندق (حسون بعيوي):

- عندي أخبار طيبة.

- مثلك مَنْ يُبشّر بخير.

- إن قلوب الناس وسيوفهم ضد الحرس القومي، لذا فأن (قضيتك) حُلّت، تلك القضية التي صرفت لها أكثر من ثلاث سنوات بين دوائر الإصلاح الزراعي وبين الجمعيات الفلاحية وبين وسطاء الرشاوي.

كان البارحة عندي نزيل من أهل قرية العلوة حكى كيف تجمّع أهل القرية مساء، وعلى ضوء القمر شقوا الساقية وفي الصباح كان الماء يغمر أرضك بعد أن بُذِرَت بالسمسم. الواقع يا أبو مطشر فَرِحتُ وتأثرتُ لأنك أخيرا قد أنجزت قضيتك.

سكت حمزة الخلف على مدى إخراج علبة سكائره من جيبه وإشعال سيكاره ثم قال: إن قضيتي الآن لم تعد كما كانت، مجرد توفير الماء للأرض، ولا يعني ذك التقليل من شأن الماء والأرض بالنسبة لي، أنت تُدرك ذلك.

يا حسون.. أصبحت لي قضية أخرى، هكذا وجدتُ نفسي وسط (قضية)، بدأت الآن. هل تفهمني؟

يمكن أن تسميها (قضية حمزة الخلف)).

***

أما الزناد فيمثل أول رشوة من سعدون بن مهلهل، الإقطاعي لخلف. فقد تناول سعدون الزناد ورماه في حجر خلف. 

***

في مناسبة تالية، حيث جاء مع أبناء عشيرته بمطالب محددة لسعدون، ولكن حين قدح زناده مرتين.. عاجله سعدون قبل القدحة الثالثة، ورمى زناده الجديد بين يدي خلف وقال: ورّث بيه واخذه فردنوب.

نبهه ابن صگر، الذي يليه في المجلس إلى طول سكوته. غمزه خلف بإشارة (تريث قليلا). وقال في سره: كم أنا سريع التأثر! أوشكت أن أسيء إلى علاقتي الأخوية بسعدون من أجل خُمس حاصل الديمة. تف على وسخ الدنيا. بصق ورقة تبغ علقت بلسانه: أي قياس بين خُمس حاصل الديمة وبين القيمة المعنوية لالتفاتة سعدون (تفضل يا خلف هاك زنادي) وسط هذا الديوان المزدحم. لو جمعتَ كل إساءاته ووضعتها في كفة لرجحت عليها نفحته هذه.

عاود سويلم الصگر إشارته. رفع خلف حاجبه وحرك رأسه بعصبية. فهم سويلم الصگر أن صاحبه قد عدل عن رأيه. غادر المضيف حانقا، وشكاه إلى حسين، واصفا إياه بأنه من نوع الرجال الذين ينطبق عليهم المأثور (حُط بيده خِثي واخذ خبزته)

ضحك حسين وردد: بالوزا يا حيف ما هيه ارجال، گوّم النمشا واخذ بيضاتها.

***

في قضية أخرى مع سعدون، حيث رحب بمقدم خلف وأولاد صگر، ففكر خلف على الفور: ابن مهلهل ذهب تيزاب لن يصدأ أبدا.. وحين فرغ من لفيفة التبغ أخرج الزناد.. وسحب الفتيلة إلى أعلى ثم نفخها قبل أن يقدح.. فضحك سعدون وقال: هاه.. چنّه صار ابو نفخه!

ومد يده إلى جيبه، فأخرج قطعة معدنية مربعة الشكل، تلمع كالفضة المجلوة، ثم ناوله الزناد، شارحا كيفية استعماله..

أوجس سويلم الصگر خيفة، وردد في سره: (يا يمّه..!)..                      لقد فعل مثل هذا يوم جئنا نحتج على تعيين (شِحنه) يراقب الديمات.. وخَدَعَ خلفا بزناد. إن اللعبة تتكرر (الله يستر من تاليها).

عقّبَ حسين، الذي تمارض عن حضور مجلس العزاء على سعدون، حين بلغه أمر خلف، وصراخه وتلويحه بالزناد: يا حيف والله يا حيف.. اخرفّ الزلمه!

 ومرة قال بمحضر من حمزة، بِدالةٍ لا ينكرها عليه أحد، وكأنما يخاطب خلفا:

- يا سفيه.. يا گلب مامش.. اشتذكر منّه وتبچي عليه؟ أطاّك زناد واخذ ديمتك!..

**

جاء خلف إلى حسين، وقد طرأت له فكرة، وقبل أن يطرح ما يدور في ذهنه، ملأ السبيل بالتبغ ثم أخرج زناد سعدون وأشعله، مبالغا في اظهار صعوبة اشتعال السبيل من لهبة الزناد وقال: شوف.. شوف الموعظة اشلون؟.. آنه لو افتهم چا ضمّيت الزناد من يوم موتة سعدون..

هاي عِبرة إلي.. ضاع ورگ اللف وردينا للسبلان!

كتم حسين ضحكته وأجاب: تمام. لو تفتهم چا دفنت الزناد بچفن المرحوم!

لم يفطن خلف إلى المعابثة في كلام صاحبه فقال موافقا: تمام يا ابو ناصر. تمام.

وتمادى حسين في معابثته فأضاف: لو حاط الزناد وبطل البانزيم بچفن المرحوم چان صارت سالفه تنذچر بالتاريخ!

***

مد خلف يده إلى جيبه وأخرج الزناد. تناهى إليه هورن سيارة، وضع كفه فوق حاجبيه ودقق النظر: أهذا أنت يا ابن بن الغشاش..

جاء مزاج الشيخ ضاري أن يداعب خلف.. لحّنَ نغما سريعا على الهورن. ارتعشت يد خلف: ها انا ابو حمزة.. طيط طيط!!؟ شنهو فرق الطيط طيط عن العفطه؟! تعفط لي يا ابن بن الغشاش!!

ارتطم الزناد باللوح الزجاجي.. تطايرت شظايا الزجاج..

تدفق الدم غزيرا من وجه الشيخ ضاري.. تعذرت عليه الرؤية.. كبح السيارة بقوة. كان خلف قد استجمع شتات قواه ليودعها في تلك الضربة المحكمة.. ألقى الزناد.. سقط جانبا مغمى عليه. هرع آل خلف وآل اشنين.. وداود.. ظن الجميع بأن سيارة الشيخ دهست خلف.

أرعبهم منظر الشيخ ضاري يسبح بدمه.

***

بعد ثورة تموز 1958 سارت جماهير الفلاحين صوب قصر الشيوخ تأييدا للثورة: خطا خلف نحو (الجيمه) (المسيرة) مستعيناً بعكازته. فبادر حمود بن شنين بالهتاف:

- ها ها النشامه.. هذا خلف تلگاگم.. هوسوا.. هوسه هوسه، على احساب خلف.

ثم لوح له بالزناد (الذي وجده أحدهم في باحة القصر) وصاح بانفعال:

-  زنادك.. زنادك يخلف. لگيته بغصرهم!

تحلق عدد غير قليل حول حمود، بانتظار الهوسة، فأدار عينه بينهم، رفع يده، التي تحمل زناد خلف، وركل الأرض بقدم واحدة وهوّس:

ازنادك ردّلك كون اتريد إحرجّهم بيه

فاستجاب الآخرون لهوسته، متصنعين الحماس..

ازنادك ردّلك كون اتريد إحرجّهم بيه

***

وعند موت خلف الذي صادف بعد الثورة بيوم واحد، وصل المعلم فاضل (ابن ناصر وحفيد حسين)، شق طريقه وسط الزحام.. وراح يتملّى وجه خلف..

قطع تأملاته حمود بن شنين، بإشارة من إصبعه، إلى كفي خلف:

أحداهما تمسك المنديل الأبيض، هدية فاضل. والأخرى مُطبِقة على الزناد.

***

بعد أن رفضت وزارة الإعلام تعضيد الرواية، اشتراها الجمهور قبل أن تُطبع، فكتب رسالة لوزير الإعلام ختمها بما يلي:

لم استهدف من كل هذا، إن الرواية صالحة للتعضيد أو النشر. لكن المؤكد، جدا، والذي لا جدال فيه، أن أمنيات حسين، التي تحققت تصلح لأن يراها الناس (يقصد تأميم النفط سنة 1972).

وثمة حقيقة بالتواريخ، إن مسودات الرواية قدمت قبل مفاوضات النفط. التي مرت بآلاف التعقيدات، وملايين المناورات من جانب الاحتكارات النفطية، ومع ذلك حُسمت المعركة، وأممت عمليات شركة نفط العراق. وتحققت أحلام حسين، وما تزال مسودات الزناد، بين أوراق الخبير، أو أية أوراق أخرى، المهم أنها حبيسة. أليس من حقي أن أتعجل إطلاق سراحها؟

تلك هي قصة أبطال رواية شمران الياسري التي جعلتهم إرثا لنا نحن عائلته وأصدقاءه ومحبيه، وحزبه طبعا.