بينما تتعمق اللامساواة في أغلب الدول حول العالم، برزت ولاية كيرالا الهندية التي يبلغ عدد سكانها قرابة 33 مليون نسمة ومساحة تقارب مساحة سويسرا كمنارة أمل. ومن المقرر أن تصبح كيرالا أول ولاية في الهند تقضي تمامًا على الفقر المدقع بحلول تشرين الثاني، ٢٠٢٥.
في منطقة غالباً ما تسمع فيها طبول الحرب، خاصة بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان، لا يمكن المبالغة في أهمية وقف إطلاق النار المستدام. فبينما تتصدر المناوشات العسكرية والمواقف القومية العناوين الرئيسية، فإنها تحرف الانتباه والموارد الحيوية عن المعارك الحقيقية ضد الفقر والأمية والبطالة والأزمات الصحية العامة. لا تكمن عظمة الأمة في ترسانتها من الأسلحة، بل في رفاهية شعبها. يمكن ان تتيح اتفاقية وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان في مايو ٢٠٢٥ فرصة لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية، والتحول من الاهتمام بالنزاعات الحدودية إلى بناء مجتمعات عادلة ومنصفة. وفي هذا السياق، تؤكد الخطوات الرائدة لحكومة ولاية كيرالا في القضاء على الفقر ما يمكن تحقيقه عندما تختار الحكومات الرفاهية بدلاً من الحرب، والاستثمار الاجتماعي بدلاً من الإنفاق العسكري.
في عالم يعاني من تفاوت راسخ، برزت ولاية كيرالا الهندية كمنارة أمل. بحلول نوفمبر 2025، من المقرر أن تصبح كيرالا أول ولاية في الهند تقضي تمامًا على الفقر المدقع، وهو إنجاز أعلنه رئيس الوزراء بيناراي فيجايان بعد نجاح دهرمادام (الدائرة الانتخابية الأولى الخالية من الفقر المدقع في الولاية). هذا الإنجاز ليس مجرد انتصار إحصائي، بل شهادة على عقود من السياسات المستوحاة من الاشتراكية التي أعطت الأولوية للتنمية العادلة والديمقراطية الشعبية والكرامة الإنسانية. تقدم رحلة كيرالا رؤى حاسمة حول كيفية تمكين الاستراتيجيات النظامية القائمة على المجتمع من انتشال الملايين من الحرمان، مما يثبت أن الفقر خيار سياسي وليس واقعًا حتميًا.
يستند نجاح كيرالا إلى منهجها التشاركي الدقيق في تحديد الفقر ومعالجته. فبعد إطلاق "مشروع القضاء على الفقر المدقع" (EPEP) في مايو 2021، وضعت الولاية معيارًا عالميًا في الدقة. وفقًا لـ "المراجعة الاقتصادية" الصادرة عام 2024 عن مجلس تخطيط ولاية كيرالا، بدأت المبادرة بترشيح 118,309 أسرة فقيرة من الأحياء المحلية، تلاها عملية تتحقق في أربع مراحل:
فحص لجان فرعية تابعة للحكم المحلي (LSG)، مقابلات وجهاً لوجه، المصادقة من قبل جمعيات الأحياء (مجالس القرى المحلية)، مراجعة عشوائية بنسبة 20 بالمائة لضمان الدقة.
ركز المسح على أربعة مؤشرات: (نقص الغذاء، الدخل، السكن، والرعاية الصحية)، مع استبعاد الأسر المشمولة بالفعل ببرامج الرعاية الاجتماعية لتجنب الازدواجية.
كشف الإحصاء النهائي عن وجود 64,006 أسرة تعيش في فقر مدقع، 81 بالمائة منها تقيم في المناطق الريفية. سجلت منطقة ملابورام أعلى عدد (8,553 أسرة) بينما سجلت كوتايام أقل عدد (1,071 أسرة). أثرت الأزمات الصحية على أكثر من 40,000 أسرة، بينما عانت 34,523 أسرة من انعدام الأمن الغذائي، و15,091 أسرة تفتقر إلى سكن لائق. وقد وجهت هذه الأرقام عملية وضع خطط مصممة خصيصاً لكل أسرة، تجمع بين الإغاثة الفورية (طرود غذائية، رعاية صحية طارئة) والدعم قصير الأجل (سكن مؤقت، مساعدات توظيف) وحلول طويلة الأمد (تدريب على المهارات، سكن دائم). على سبيل المثال، تلقت الأسر التي تواجه حالات طارئة علاجاً مجانياً عبر مستشفيات كيرالا الحكومية المجددة، بينما حصلت أسر أخرى على فرص للعمل الحر من خلال التعاونيات.
ركائز الإرث الاشتراكي في كيرالا
يستند إطار مكافحة الفقر في كيرالا إلى تاريخ طويل من الإصلاحات الهيكلية التي قادها الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) والجبهة الديمقراطية اليسارية (LDF). وقد أسهمت هذه الإصلاحات في انخفاض كبير في معدلات الفقر بالولاية من 59.79 بالمائة في سبعينيات القرن الماضي إلى 11.03 بالمائة فقط بحلول عام 2011. وقد تحقق هذا التحول من خلال مجموعة من الابتكارات السياسية التي أعادت تشكيل علاقات ملكية الأرض ونظام الحكم، وآليات تقديم الرعاية الاجتماعية، والأدوار الجندرية.
كان الإصلاح الزراعي حجر الزاوية في تقدم كيرالا الاجتماعي، حيث قضى الاصلاح الزراعي على التراتبية الهرمية الإقطاعية الراسخة من خلال منح حقوق ملكية الأرض للمزارعين المستأجرين، وفرض سقوف على حيازات الأراضي، وإعادة توزيع الأراضي الفائضة على العمال الزراعيين المعدمين. وهذه الإجراءات قوضت الهيمنة التقليدية لكبار ملاك الأراضي من الطبقات العليا، وحسّنت بشكل كبير مستويات المعيشة في المناطق الريفية، وعززت القوة التفاوضية للفلاحين والعمال الزراعيين.
أدّت تجربة كيرالا في اللامركزية الإدارية إلى تعميق المشاركة الديمقراطية وتعزيز القدرات المحلية. ومن خلال تفويض صلاحيات مالية وإدارية واسعة لهيئات الحكم المحلي (LSGs)، مكّنت الولاية مجالس البانشايات (مجالس القرى المحلية) من تصميم وتنفيذ برامج الرعاية الاجتماعية بما يتناسب مع الواقع المحلي. أثبت هذا الهيكل فعاليته الحاسمة خلال جائحة كوفيد-19، حيث تم إنشاء مطابخ مجتمعية بسرعة وساهم المتطوعون في توصيل الوجبات للمحتاجين. كما ساهمت عملية اللامركزية في تعزيز الشفافية، ورفع مستوى الوعي السياسي بين المواطنين، وزيادة المساءلة في تنفيذ السياسات.
يشكِّل التركيز طويل الأمد للولاية على الصحة العامة والتعليم قاعدةً صلبةً للتنمية البشرية. فقد أعادت "مهمة أردرم" (Aardram Mission) التي أُطلقت عام 2017 إحياء مراكز الرعاية الصحية الأولية من خلال دمج خدمات الصحة النفسية والرعاية من الصدمات النفسية، مما جعلها أكثر سهولةً وملاءمةً للمرضى. أما معدل الإلمام بالقراءة والكتابة البالغ 96.2 بالمائة في كيرالا فهو ثمرة عقود من الاستثمار في التعليم الشامل، والتدريب المهني، والمدارس الحكومية، مما أسهم في إيجاد قوى عاملة أكثر وعياً، وأكثر مهارةً، وأفضل صحةً.
كان تمكين المرأة عنصراً أساسياً في نموذج التنمية في كيرالا، لا سيما من خلال برنامج كودومبشري (رفاهية العائلة) الذي أُطلق عام 1998. يضم البرنامج أكثر من 4.5 مليون عضوة، مما يجعله أحد أكبر مبادرات التخفيف من حدة الفقر وتمكين المرأة بقيادة نسائية في العالم. ومن خلال الجمع بين تمويل المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال والزراعة الجماعية والحكم المحلي، مكّن البرنامج مئات الآلاف من النساء من تأمين سبل العيش وتحدي الهياكل الاجتماعية الأبوية.
تكمل هذه الجهود برامج ضمان اجتماعي قوية تهدف إلى حماية الفئات الضعيفة. فمبادرات مثل "أغاثي راهيثا كيرالا" (كيرلا الخالية من البؤس) توفر شبكة أمان شاملة، تقدم معاشات لكبار السن، وبدلات للإعاقة، ومنحاً دراسية لأطفال المجتمعات المهمشة. تعكس هذه البرامج التزام كيرالا ببناء دولة رفاهية تُعطي الأولوية للشمولية والكرامة والحماية الاجتماعية.
التشابه مع نماذج الاشتراكية الصينية
تحاكي إنجازات كيرالا الحملة الصينية غير المسبوقة للقضاء على الفقر. إذ تلتقي جهود كيرالا المستهدفة للقضاء على الفقر المدقع مع برنامج الصين للتخفيف من حدة الفقر. في حين بدأ المسار الأوسع للصين في الحد من الفقر أواخر سبعينيات القرن العشرين، شهدت الفترة بين 2014 و2020 دفعة حاسمة لإنقاذ الأكثر تهميشاً – أولئك الذين كانوا يعانون من الفقر المطلق - عبر نموذج حوكمة منسق، قائم على البيانات، ومتجذر محلياً. ويجسد مشروع كيرالا للقضاء على الفقر المدقع (EPEP) الذي أُطلق عام 2021 العديد من المبادئ والممارسات المؤسسية نفسها، المتأصلة في قيم التخطيط الاشتراكي، ومسؤولية الدولة، والحوكمة التشاركية.
العنصر الرئيسي المشترك بين النموذجين هو التحديد الدقيق للفقراء. بدأت حملة الصين بمسح وطني ضخم في عام 2014، حدد 89.62 مليون فرد يعيشون تحت خط الفقر الوطني. وبالمثل، أجرت كيرالا عملية تحقق متعددة المستويات من خلال مؤسسات الحكم المحلي، وجمعيات القرى، ومراجعات اجتماعية لتحديد 64,006 أسرة تعيش في ظروف الفقر المدقع.
يتمثل القاسم المشترك الثاني في التركيز على خطط مكافحة الفقر المخصصة لكل أسرة. في الصين، حصلت كل أسرة محددة على استراتيجية مخصصة تشمل توليد الدخل، التدريب على المهارات، الوصول للرعاية الصحية، الدعم السكني، وفي بعض الحالات الترحيل الطوعي.
تبنت كيرالا نموذجاً ثلاثياً مماثلاً:
- الإغاثة الفورية (مثل الطرود الغذائية والمساعدات الطبية الطارئة)
- الدعم قصير الأجل (السكن المؤقت، المساعدة في التوظيف)
- الحلول طويلة الأمد (السكن الدائم، التدريب المهني، العمل الذاتي عبر التعاونيات)
تميز النموذجان أيضاً بدور قوي لهياكل الحكم المحلي في تقديم الحماية الاجتماعية. في الصين، تم نشر أكثر من 3 ملايين مسؤول وقائد حزبي على المستوى المحلي لتنفيذ ومتابعة جهود القضاء على الفقر على مستوى القرى. أما في كيرالا، فقد أصبحت مؤسسات مثل مجالس القرى المحلية المنتخبة، جنباً إلى جنب مع حركة (العائلة المزدهرة) بقيادة النساء، جهات فاعلة رئيسية في تحديد الاحتياجات، تقديم الخدمات، وضمان المساءلة.
ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة. فعلى الرغم من القضاء على الفقر المدقع، تواجه الصين فجوات الدخل بين المناطق الحضرية والريفية، بينما تعاني كيرالا من ارتفاع تكاليف المعيشة وشيخوخة السكان. كشفت دراسة أجريت عام 2024 من قبل مركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية أن ما يقرب من ثلث الأسر الفقيرة جداً انزلقت إلى الفقر بعد صدمات كبرى، مثل وفاة العائل أو حالات الطوارئ الصحية الخطيرة. وأوصت الدراسة بالتعرف الاستباقي على الأسر المعرضة للخطر وإنشاء "صناديق إغاثة الأزمات" على مستويات الحكم المحلي لمنع الانتكاس – وهو تذكير بأن الفقر ظاهرة ديناميكية تتطلب اهتماماً مستمراً.
ما بعد الفقر: إعادة تعريف التنمية
إنجاز كيرالا في القضاء على الفقر المدقع يُرسي الأساس لمواجهة مجموعة أوسع من التحديات الهيكلية التي تزداد صلةً بالجنوب العالمي. هذه التحديات ليست مجرد نتيجة للتقدم التكنولوجي، بل لكيفية اندماج هذه التقنيات في أنظمة اجتماعية واقتصادية غير متكافئة. يقدم التوجه السياسي المتطور في كيرالا رؤى قيمة حول كيفية تبني الدول للابتكار مع إعطاء الأولوية للمساواة والاستدامة والرفاه البشري.
مع بدء تحول الأتمتة والذكاء الاصطناعي في أسواق العمل، تبنت ولاية كيرالا في الهند موقفًا استباقيًا. بدلًا من مقاومة التغيير التكنولوجي، تستثمر الولاية في قطاعات ناشئة مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية الرقمية. على سبيل المثال، تهدف مبادرة "شبكة كيرالا للألياف البصرية" (KFON) إلى توفير إنترنت عالي السرعة مجانًا أو بأسعار معقولة للمجتمعات المحرومة، مما يُسهل الشمول الرقمي ويفتح فرص عمل جديدة. في الوقت نفسه، تعزز الولاية حماية العاملين في اقتصاد المنصات، بما في ذلك إنشاء مجالس رعاية اجتماعية للعاملين المستقلين مثل سائقي السيارات وموظفي التوصيل. هذه المبادرات تتردد فيها عناصر من استراتيجية الصين "الازدهار المشترك"، التي تشمل جهودًا لتنظيم عمالقة التكنولوجيا والحد من عدم المساواة في الثروة عبر الضرائب وإعادة التوزيع.
يستند التزام كيرالا بالتنمية المستدامة إلى نموذجها للحوكمة اللامركزية. من خلال تعزيز سلطات "بانشايات" (المجالس المحلية) والحكومات الذاتية المحلية، تضمن الولاية أن تكون التنمية تشاركية وملائمة للسياق المحلي. على سبيل المثال، تدمج "مهمة هاريثا كيرالا" حماية البيئة في التخطيط المحلي من خلال تشجيع تجميع مياه الأمطار، والزراعة العضوية، وإدارة النفايات على مستوى المجتمع. هذا النهج يتوافق مع استراتيجية الصين لإحياء الريف، التي تستخدم التكنولوجيا الرقمية وبرامج الإرشاد الزراعي والاستثمار في البنية التحتية لسد الفجوات بين الريف والحضر معًا، تؤكد هذه المبادرات التزام كيرالا بنموذج تنموي يضع التنمية كهدف، وليس الإنتاج أو الربح فقط. ومن خلال الجمع بين العدالة الاقتصادية والاستدامة البيئية والكرامة الإنسانية، تشق الولاية طريقًا يتحدى المقاييس الرأسمالية التقليدية للنجاح. هذا النهج يشير إلى إمكانية إعادة توجيه التنمية نحو الصالح العام، والملكية الاجتماعية، والحوكمة التشاركية – مبادئ يتردد صداها عبر سياقات متنوعة في دول الجنوب العالمي التي تسعى لمستقبل أكثر إنسانية وشمولاً.