في فجر الرابع عشر من تموز عام 1958، أشرقت شمس العراق على ولادة جمهورية أرادها العراقيون خلاصاً من العهد الملكي الجائر، وفتحاً لزمن جديد يليق بكرامة الإنسان العراقي. لم تكن تلك الثورة مجرد انقلاب عسكري عابر، بل كانت زلزالاً تاريخياً، أعاد تشكيل هوية العراق السياسية والاجتماعية، وأسس لأول مرة لفكرة "الشعب سيد نفسه"، في دولة لطالما كانت مرهونةً بالتاج ومرتبطةً بالمستعمر.
قائد الثورة، الزعيم عبد الكريم قاسم، لم يكن معصوماً من الخطأ، ولا كانت تجربته خاليةً من المطبات، ولكن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنه كان صادق النية، ووطنياً حتى العظم، وزاهداً في السلطة. لقد حمل المشروع الوطني على كتفيه، وفتح أبواب التعليم، وأطلق مشاريع الإسكان للفقراء، وأعاد توزيع الأراضي على الفلاحين، وألغى الامتيازات الطبقية، وأوقف تبعية العراق للمحاور الدولية.
فأي خطيئة تاريخية أن يُطوى هذا اليوم من ذاكرة العطل الوطنية؟!
أن تُلغى عطلة الرابع عشر من تموز، ليست مجرد حركة إدارية، بل هو عمل سياسي مقصود، تنبعث منه رائحة الجحود والنكران، بل وتكشف عن عمق أزمة الهوية والانتماء لدى النخب السياسية التي تحكم العراق اليوم. فهؤلاء الذين يتنعمون الآن بالحكم الجمهوري، ويتحدثون عن الديمقراطية، وينعمون بمؤسسات الدولة الحديثة، ينسون (أو يتناسون) أن كل هذا بدأ من هناك، من فجر ثورة 14 تموز الخالدة.
بل الأعجب أن البعثيين الذين خنقوا عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة، واعتصموا على جثته، لم يجرؤوا حتى على إنكار ذكرى الثورة، وأبقوا يوم 14 تموز عطلة رسمية طوال فترة حكمهم للعراق، رغم عدائهم الدموي مع الزعيم. لماذا؟ لأنهم – على توحشهم – أدركوا أن تلك اللحظة كانت تخص العراق، لا الرجل وحده. كانت صفحةً من تاريخ الوطن، لا مجرّد سيرة قائد.
أنتم الذين تنكرون هذه المناسبة، وتخجلون من ذكر الزعيم قاسم، وتحذفون عطلته، لا تنتمون إلى السردية الوطنية العراقية، بل أنتم غرباء على الذاكرة، منسيون في سيرة التاريخ. فمن لا يعترف بمن أشعل نور الحرية في وجه الاستعمار والتبعية، لا يحق له أن يتحدث عن الوطنية.
كل يوم يمرّ على العراق وهو ينزف تحت وطأة الفساد والطائفية، يجعلنا نتحسر على حلم الدولة الذي بدأه الزعيم قاسم. لم يكن الرجل معصوماً، لكنه كان واضح الوجهة ، عراقٌ حر، موحد، بلا سجون سرية، ولا امتيازات طبقية، ولا قرارات تُصنع في سفارات الدول الكبرى.
فلماذا لا تريدون لهذا اليوم أن يُذكر؟ هل لأن في ذكراه إدانة لكم؟ هل لأن سيرتكم مشوّهة أمام ظلال رجلٍ عاش في بيت مؤجر، ومات دون أن يسرق ديناراً واحداً من خزينة العراق؟ هل لأنكم تعرفون أنكم لا تُقاسون به، ولا تقربونه في شيء؟
يا ساستنا الجدد، إنكم إن نسيتم التاريخ، فالتاريخ لا ينساكم.
ولعل يوماً يأتي، يُسأل فيه العراقيون.. من هؤلاء الذين اغتالوا حتى الذكرى؟
وحينها سنقول: نحن لا نعرفهم.