تؤثر التغيرات المناخية اليوم بشكل مباشر على الوضع الاجتماعي وخاصة مستويات الفقر. ويواجه العراق تحديات مناخية كبيرة، أثرت وتؤثر بشكل مباشر على التركيبة الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي ومستويات الفقر في البلاد. إن تحديات تغيرات المناخ هذه تستلزم سياسات كفوءة لمعالجتها، فالتدهور البيئي يؤثر سلبا على الإنتاج والرفاه المجتمعي والعمالة، ويقع ثقله بشكل خاص على الفئات السكانية الأكثر فقرا وضعفا. وحين يتزامن ذلك مع انخفاض أسعار النفط العالمية، سيؤثر على القدرات المالية العامة للبلاد بشكل حاد.
وصف الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، الاحتباس الحراري بانه "الأولوية الأهم للبشرية"، مرددا تصريحات مماثلة لقادة عالميين آخرين. ولا تتطلب مواجهة هذه التحديات موارد مالية وتكنولوجية فقط بل وبالأساس قيادة وإدارة كفوءة ونزيهة تستطيع استخدام الموارد المتيسرة بكفاءة وفاعلية. وللأسف لم يتم بناء مؤسسات الدولة العراقية الحالية على أساس نظرة علمية واستراتيجة لمواجهة هذه التحديات، ولم تخصص الدولة دعما كافيا لإجراءات ودراسات علمية تساهم في الحد من مخاطر وتأثيرات هذه التغيرات. فنجد أن أغلب الدراسات والسياسات تقوم بها وتقترحها مؤسسات دولية تنظر إلى المسألة من منظارها الخاص في الوقت الذي نلمس ضعف المعالجات الوطنية، والتي في اغلب الاحيان تأخذ شكل المهرجانات والدعاية السياسية وتتصاعد في فترة قصيرة ثم تختفي ويطمرها النسيان.
في العراق أخذت درجات الحرارة تتجاوز 50 درجة مئوية ويرافقها شحة في الأمطار خاصة في جنوب البلاد. مما أحدث أضرارا جسيمة في النظام البيئي عامة، وعلى سبيل المثال الأضرار في منطقة الاهوار، التي يعود تاريخها إلى قرون طويلة مضت. هذا النظام الذي شكل قلب حضارات "الهلال الخصيب" ووادي الرافدين سابقا. كما وتواجه جميع المناطق الواقعة على طول نهري دجلة والفرات تحديات هائلة أيضا: واستمرار هذه التغيرات المناخية في المنطقة، سيؤدي إلى تزايد وتيرة تكون العواصف الرملية على مدى أكثر من 300 يوم في السنة بحلول عام 2050. وسيسبب ازدياد درجات الحرارة إلى تصاعد كميات تبخر المياه السطحية، ومع انخفاض تدفق المياه من إيران وتركيا وتناقص كميات الامطار سيسبب انخفاض القدرات المائية في جميع أنحاء البلاد إلى الحد الأدنى - مما ينتج عواقب تؤثر على سكان الريف والمدينة.
إن ما نبه إليه وتنبأ به علماء وجهات عديدة أصبح الآن سيناريو يتشكل أمامنا بالفعل وسيؤثر على سكان العراق والأجيال القادمة. وكما هو الحال في بلدان أخرى في الشرق الأوسط، فأن الظروف المناخية المتدهورة تؤثر على الحياة المعاشية اليومية لشرائح كبيرة من السكان. ومن الأمور المهمة في هذا السياق إمكانية الحصول على مياه الشرب العذبة بانتظام، فقد أصبح الحصول على المياه صعبا بشكل متزايد بالنسبة لملايين البشر. في حين كان تدفق المياه العذبة في البلاد 1350 مترا مكعبا في الثانية في بداية القرن العشرين، فإنه اليوم لا يتجاوز 149 مترا مكعبا. وعلى وجه الخصوص، فإن روافد الأنهار الرئيسية الفرات ودجلة وديالى تجف بشكل متزايد. وبالإضافة إلى نقص الأمطار في المناطق الجبلية من البلاد، تتحمل دولتا إيران وتركيا المسؤولية، حيث تستخدمان المياه بشكل متزايد لتلبية احتياجاتهما الخاصة من خلال السدود وأحواض الاحتجاز الأخرى. لقد أصبحت حقول الحبوب الخصبة التقليدية على طول الأنهار وفي المستنقعات الجنوبية الآن أشبه بالصحراء.
ومما يزيد الطين بلة هو سوء وتخلف سياسة إدارة المياه التي تقوم بها المؤسسات العراقية، فتزداد خسارة المياه في العراق ويتم فقدان 14.7 في المائة من المياه السطحية عن طريق التبخر كل عام. وفقدت بعض البحيرات، مثل حمرين و هور أم البني بالفعل أكثر من 50 في المائة من حجمها ومن المرجح أن تجف تماما في السنوات المقبلة. أما في المدن والمناطق الحضرية فيتراوح تقدير ضياع مياه الشرب المصفاة نتيجة نضوح شبكات الانابيب المتهرئة والربط غير القانوني بين 40 بالمائة إلى 60 بالمائة. وهذه مياه مصفاة تتسرب وتذهب هدرا بسبب سوء الإدارة.
ونتيجة شحة المياه فقدت المجتمعات المحلية، التي تعتمد على الزراعة، مواشيها أولا، وفي نهاية المطاف سبل عيشها. في كثير من الأحيان، لم يبق أمام الأشخاص الذين عاشوا في المناطق الريفية لعدة قرون أي خيار سوى الهجرة إلى المدن الكبرى في البلاد حيث يتعين عليهم العيش في ظروف محفوفة بالمجهول وتحت أوضاع معيشية صعبة.
ولكن هذا النزوح من الريف له عواقبه الاجتماعية أيضا، أبرزها استمرار ارتفاع نسب سكان المدن على حساب سكان الريف وارتفاع التمركز للسكان في المناطق الحضرية الكبرى في العراق، في عام 2021 وصلت نسبة سكان المدن إلى 71.2 بالمائة من مجمل سكان العراق ويتمركزون في مدن مثل بغداد والبصرة والنجف والموصل. وهذا يعني تدهور الاقتصاد الزراعي ومخاطر على الأمن الغذائي، إضافة إلى أنه يشكل ضغطا متزايدا على الخدمات البلدية وعلى البنية التحتية المتهالكة لمنظومات تزويد الماء والكهرباء وجمع النفايات ناهيك عن الخدمات الصحية والتعليمية، وفي نفس الوقت يخلق توترات نتيجة تباين الخلفيات والقيم الثقافية والسلوك الاجتماعي، كما ويدفع بالمزيد من الراغبين في العمل إلى سوق العمل المثقل أساسا. مما يؤدي إلى تصاعد التناقضات الاجتماعية والخروقات الأمنية وتوالي الأزمات السياسية والاجتماعية الواحدة تلو الأخرى.
وبحسب وزارة الهجرة العراقية، فقد غادر أكثر من 7 آلاف مزارع مع أسرهم المناطق الريفية خلال عام 2023 وحده. مما دفع غالبية الفلاحين للتحول ليصبحوا عمالا فقراء يعرضون قوة عملهم على أرصفة المدن لقاء أجور ضئيلة بدون أي حقوق وحماية قانونية.
اثرت هذه التغيرات في ظل سوء إدارة للنظام السياسي في العراق وتسلط المحاصصة الطائفية وانتشار الفساد على تغيير تركيبة الفئات الاجتماعية وأدت إلى تحورات جذرية في تركيبة المجتمع العراقي وبشكل صادم وعاصف. فقد اشتد التمايزالاجتماعي والطبقي، فمن ناحية نشأت طبقة طفيلية أثرت من خلال نهب المال العام وانتجت تنظيمات سياسية مسلحة خارج الدولة تتلبس الغطاء الديني او الطائفي وتتخادم مع قوى إقليمية غير عراقية وترتبط بأنظمتها السياسية وتخضع لأهدافها لضمان استمرارية بقاء هيمنتها على السلطة، ومن جانب آخر نشهد انتشار البطالة وتوسع هائل لدائرة الفئات الاجتماعية التي تعيش تحت خط الفقر. إن سياسة طبقة الأحزاب الطائفية المسيطرة على الدولة وضعت العراق في أخطر أزمة مالية وصحية وسياسية يشهدها منذ نشوئه، وتستند هذه الطبقة الطفيلية على تكتلات اجتماعية تقوم على أساس المذهبية والطائفية والعشائرية والاثنية.
أطلق الماركسيون على الطبقات المهيمنة والمتخادمة مع قوى أجنبية خارجية مصطلح البرجوازية الكومبرادورية، وهي طبقة تخدم مصالح القوى الأجنبية وتقف بالضد من مصالح الطبقات والشرائح الاجتماعية الوطنية التي تعارض التسلط الأجنبي وتروج لاستقلال وتطوراقتصاد بلادها ورفاه شعبها. ونشهد في العراق شكلا من هذه البرجوازية الكومبرادورية. فقيادات أحزاب الطوائف لها امتدادات وتتخادم مع قوى خارجية غير وطنية وفي نفس الوقت تعتاش على الاستحواذ على واردات العراق مستخدمة تنظيمات وتشكيلات أحزابها المهيمنة على مؤسسات الدولة. وتضمن استمرارية هيمنتها وإدامة هذا الوضع من خلال تقاسم الحصص بين ما يسمونه المكونات الأخرى، وفرض سلوك سياسي يسيطر على مؤسسات الدولة على أساس المحاصصة. وهكذا تستولي هذه الطبقة على الثروة من خلال نشاطات طفيلية غير منتجة مثل التهريب والرشاوى والقومسيونات والابتزاز وحتى سلب الحقوق بقوة السلاح.
إن الماركسيين حلفاء الطبقات الفقيرة الكادحة والمتضررة من سياسات وفساد الطغمة الطفيلية الكومبرادورية الحاكمة يسعون مع جميع طبقات وفئات الشعب المتضررة للتخلص من هيمنة هذه الطبقة الطفيلية. وهنا يجب التوعية والكشف عن أن الصراع الحقيقي داخل المجتمع وهو الصراع بين الطبقات الطفيلية الفاسدة المتخادمة مع الأجنبي والتي تحقق ثروتها على حساب إفقار الشعب ونهب ثرواته متسترة بأغلفة دينية وطائفية وقومية، وبين الجماهير العريضة من شرائح وطبقات المجتمع العراقي المتضررة.
هذا النظام الذي تحكمه وتهيمن عليه الطبقات الطفيلية وينخره الفساد لا يتمكن من مواجهة تحديات التغير المناخي بل بالعكس سيسبب ظهور كوارث وتحديات وتناقضات أخرى أكثر خطرا مما سيضاعف تأثيرات تغيرات المناخ السلبية ويدفع بسرعة إلى انهيار المقومات البيئية والأساسية لمعيشة الشعب. فنظام الفساد الذي تفشى تحت حكم هذه الطبقات وأحزابها يشكل أحد أكبر التحديات والتي تواجه العراق وعائقا أمام معالجة تحديات التغير المناخي وهذا ما اشارت إليه جهات متعددة ومنها حكومية. وبالرغم من اعترافات رؤؤساء الحكومات المتعاقبة، بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي، السيد السوداني، إلا أنهم لم يتخذوا إجراءات حققت نتائج لمعالجة المشكلة. ويمكن من خلال الاستعانة ببعض التقارير والمؤشرات توضيح بعض جوانب الفساد. على سبيل المثال، تشير تقارير الأمم المتحدة حول الفساد إلى وجود ما يقدر بنحو 17 مليار دولار أمريكي مسروقة من خلال تهريب النفط، والشركات الوهمية، والعقود غير المنفذة. و لا يزال العراق يحتل مرتبة متدنية على مؤشر الفساد الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية، ففي عام 2019 احتل العراق المرتبة 162 من بين 180 دولة على هذا المؤشر. ووفقا للتقارير المنشورة فالفساد السياسي هوالسبب الرئيسي. فتذكر تقارير هيئة النزاهة صدور 14 حكما في قضايا فساد ضد مسؤولين، سواء من الوزراء أو على مستوى الوزراء، بالإضافة إلى 124 حكما على مستوى مدير عام أو خاص خلال سنوات 2017 حتى 2019. علاوة على ذلك، انخفضت نسبة أعضاء البرلمان الذين أفصحوا عن ديونهم المالية إلى 38بالمائة و16 بالمائة و35 بالمائة على التوالي، خلال السنوات المذكورة. وهذا يُشير إلى ضعف السلطة الرقابية نفسها.
ويشكل الفساد السياسي والاداري وعدم كفاءة السياسيين والإداريين عبئا كبيرا على الرصانة المالية للدولة. فلا يمكن الحفاظ على أسعار المواد الغذائية والأسمدة للسكان إلا إذا دعمت الحكومة هذه الأسعار وضمنت بشكل مستمر استيراد مواد جديدة.
في أوقات التضخم والارتفاعات الهائلة في أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية وسلاسل التوريد الهشة، يمكن أن يؤدي هذا إلى تعريض ميزانيات الحكومات لخطر شديد وخلق مديونية مالية جديدة. وقد كشف البنك المركزي مؤخرا عن انخفاض احتياطي البلاد الرسمي اكثر من 11 تريليون دينار خلال عام واحد. وتلعب هيمنة الجهات الحزبية المسلحة ومكاتبها الاقتصادية على مصادر واردات الدولة دورا كبيرا في تدهور الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد.
ولكن حتى لو نجح العراق في تحقيق الاستقرار في ميزانيته بفضل أسعار النفط المرتفعة، فإنه سوف يضطر إلى القيام باستثمارات أكبر كثيراً في المستقبل من أجل الحفاظ على نوعية مقبولة لحياة سكانه، ولو أن مستوى هذه النوعية منخفض جزئياً حاليا، فالعواصف الرملية التي تهب في المنطقة اليوم لا تؤدي إلى شل حركة النقل العام فحسب، بل تتسبب في زيادة هائلة في أمراض الجهاز التنفسي ايضا. وتؤدي درجات الحرارة القياسية المتصاعدة باستمرار، المصحوبة بموجات حارة تستمر لأسابيع مع درجات حرارة تتجاوز في بعض الأحيان 50 درجة مئوية، إلى زيادة معدل الوفيات بين الفئات السكانية الضعيفة وكبار السن.
لتفادي الانهيار لا بد من الإسراع في عملية إعادة تأهيل وتحديث البنية التحتية لاستخدام المياه في العراق وتوليد الطاقة، والتي هي في حالة سيئة للغاية بسبب عقود من الإهمال وسوء الإدارة الحالي الكبير. وهذا يتطلب أيضا نزاهة وكفاءة من جانب الجهات الفاعلة السياسية والاقتصادية. إضافة إلى تطوير إدارة وإجراءات كفوءة لمعالجة النفايات ومقاومة التصحر.
إن النزوح من الريف إلى المدينة يعزز زيادة البطالة والفقر. وتُعدّ البطالة والفقر من التحديات الاقتصادية والاجتماعية الحاسمة التي يواجهها العراق، وهما نتيجة طبيعية لغياب سياسات واستراتيجيات اقتصادية فعّالة، فضلا عن تعاقب الأزمات الاقتصادية والأمنية على مدى السنوات الماضية.
وتشير أحدث الإحصاءات الرسمية المتاحة إلى أن معدل البطالة في العراق يبلغ 16.5بالمائة من القوى العاملة، وقد ارتفع بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما إلى أكثر من 35 بالمائة إذا أضفنا البطالة الجزئية، سيرتفع المعدل إلى حوالي 41 بالمائة وفي الوقت نفسه تجاوزت نسبة السكان تحت مستوى الفقر 30 بالمائة أي أكثر من 11 مليون شخص.
أدت هذه التناقضات إلى تزايد النقمة الشعبية وشهدت البلاد احتجاجات وتظاهرات متكررة تطالب بالعمل ومكافحة البطالة وترفض التوزيع غير العادل للدخل وعدم تكافؤ فرص العمل في القطاع العام (المتضخم بأكثر من ثلاثة ملايين موظف) وكان أبرز واوسع هذه الاحتجاجات هي المظاهرات الشعبية التي قام بها الشباب عام 2019. وتتكرر الاحتجاجات والتظاهرات وخاصة في المحافظات الجنوبية والتي تعاني من الفقر بشكل كبير. أما إجراءات السلطة فلم تكن الا زيادة حدة القمع وصولا للتغييب والتصفيات الجسدية، وتقوم باستخدام الأساليب التضليلية ووسائل الإعلام المرتشية غير النزيهة لخداع الشعب بشعارات والتلويح بمشاريع غير مجدية تستخدمها الفئات الطفيلية في أغلب الأحيان لزيادة سرقاتها وللحصول على مزيد من الرشى والقومسيونات.
ولكن الحراكات الشعبية المطالبة بحلول جذرية وبمكافحة الفساد والبطالة تتواصل.
إن تحديات المناخ في العراق والتي أصبحت تشكل تهديدا جديا للمجتمع العراقي، لم ولا تلقى الاهتمام الجاد من الجهات السياسية والحكومية مما يهدد بكوارث قاسية للشعب والوطن العراقي. وحين أطلق شباب العراق شعار: “نريد وطن” كانوا يتشوقون لوطن تسوده العدالة الاجتماعية وتتوفر فيه شروط العيش الكريم. وهم يدركون أن شروط العيش الكريم لن تتوفر الا بإقصاء طغمة الفساد وفرض سياسة نزيهة تكافح الفساد وتتبع رؤية تنموية مستدامة لمصلحة الشعب. ولمواجهة التحديات وتجنب النكبات يصبح التغيير العاجل ضرورة ملحة، فالنتائج الكارثية لسوء الحكم والادارة اصبحت لا تطاق وتهدد البلاد والمجتمع بالانهيار.