في عمق الفوضى التي عصفت بالشرق الأوسط، من حروب أهلية وصراعات طائفية وأزمات اقتصادية متمادية، تتخفى منظومة عالمية ذات أذرع رأسمالية متشابكة لا تصنع التاريخ، بل تفككه وتعيد تشكيله بما يخدم مصالحها الخاصة. ليست الأزمات، في هذا السياق، أعراضاً عرضية لخلل داخلي فقط، بل كثيراً ما تكون صنائع مبرمجة لإعادة ضبط الإقليم على مقاسات نظام دولي رأسمالي لا يحتمل الشراكة، بل يقتات على التبعية والنهب المنظم.
الرأسمالية كنظام للأزمات المفتعلة:
إن تاريخ الرأسمالية، منذ نشأتها الحديثة، لا يُقرأ دون قراءة سجل الأزمات التي تغذي بقاءها. ماركس فهم الرأسمالية، منذ القرن التاسع عشر، كنظام لا يعيش إلا بتناقضاته: وفرة تنتج ندرة، وأسواق تُغلق بأيدٍ كانت قد فتحتها، وفوضى تُسوّق كتحرير. غير أن التطور النوعي الذي أصابها في مرحلتها المتأخرة، خصوصًا مع النيوليبرالية، جعلها تنتج الأزمات لا فقط كنتيجة جانبية، بل كآلية اشتغال: أزمة تخلق سوقاً، وسوقاً تخلق تبعية، وتبعية تستدعي تدخلاً إمبريالياً جديداً.
من هذه الزاوية، يصعب فصل الصراعات المحتدمة في الشرق الأوسط، من العراق إلى سوريا، ومن ليبيا إلى اليمن، عن مفاعيل التدخلات الرأسمالية المدفوعة بأهداف جيوسياسية واقتصادية بحتة. لم تكن الحرب على العراق سنة 2003 مجرد ردة فعل على "تهديد نووي" مختلق، بل كانت عملية سطو نفطية منظمة تحت غطاء أيديولوجي – أمني، لا يختلف كثيراً عن تدخلات القرن التاسع عشر الاستعمارية.
سياسة النهب.. من الاستعمار القديم إلى الرأسمالية الرقمية
تحوّل الاقتصاد المعولم في القرن الواحد والعشرين إلى آلة تجريد هائلة، لا تستهدف فقط الثروات المادية كالمعادن والنفط، بل تمتد لنهب البنى المجتمعية والثقافية والبشرية. لم تعد الشركات العملاقة مجرد كيانات اقتصادية بل تحوّلت إلى أدوات سيادية، تُعيد إنتاج الاستعمار بثياب السوق.
شركات مثل (بلاك روك)، وهي أكبر شركة إدارة أصول في العالم، تتحكم بتريليونات الدولارات وتدير أموال حكومات وصناديق تقاعد وجيوش من المستثمرين. هذه القوة المالية تجعلها لاعباً خفياً في رسم السياسات الدولية وتوجيه الاقتصادات المحلية، بما يتجاوز سلطة كثير من الدول.
أما (إكسون موبيل)، وريثة "ستاندرد أويل" التاريخية، فهي تمثل الذراع الطاقوي للهيمنة، تفرض شروطها على الحكومات وتُسهم في تعطيل أي تحوّل بيئي أو طاقوي لا يخدم أرباحها. نفطها ليس فقط وقوداً للمركبات، بل أيضاً وقود لصراعات طويلة تُغذى بها الحروب والصفقات.
وتأتي (هاليبرتون)، شركة الخدمات النفطية العملاقة، كمثال فجّ على تواطؤ المال مع الحرب. فقد راكمت ثرواتها من خلال عقود مشبوهة خلال الغزو الأميركي للعراق، وكانت وثيقة الصلة بشخصيات سياسية نافذة كديك تشيني. لم تكن تنقب عن النفط بقدر ما كانت تعيد رسم خرائط النفوذ تحت ستار "الإعمار".
في ظل هذا المشهد، يبدو أن الرأسمالية الرقمية ليست سوى امتداد لصوت المدفع القديم، ولكن بلغة البيانات والأسواق والاستثمار. إنها استعمار بلا جنود، ونهب بلا أعلام، تمارسه مؤسسات ترفع شعار "الربح أولاً" وتسدل الستار على معاناة الشعوب.
ما يحدث اليوم ليس فقط اختراقاً للأسواق، بل إعادة هندسة للعالم على مقاس الشركات لا الشعوب. تُنتزع السيادة من الدول وتُسلّم إلى مجالس إدارات عابرة للحدود. تدار السياسات بأرقام الأسهم، وتقاس التنمية بمعدلات الربح لا بمؤشرات العدالة. الفقر، التهجير، تفكيك الطبقات الوسطى، كلها نتائج لمنظومة تجني أرباحها من التفاوت، وتُبقي على الخراب كشرط لاستمرارها.
نحن أمام عصر تستبدل فيه المدافع بالمؤشرات المالية، والاستعمار القديم بخوارزميات تسعير الأزمات.
بلدان مثل السودان وسوريا واليمن وقعت في فخ الصراعات الداخلية بعد أن تم تفكيك جهاز الدولة أو إنهاكه بضغط اقتصادي مبرمج (عقوبات، خصخصة، إغراق السوق، تخريب العملة...). وما يُسمّى بـ "برامج الإصلاح" المفروضة من صندوق النقد الدولي ليست إلا وصفات تقشفية تمهّد الأرض لنهب الشركات متعددة الجنسيات.
ولكن هنالك سؤال يطرح نفسه: لماذا لم يذكر العراق مع تلك الدول التي وقعت في فخ الصراعات الداخلية بعد تفكيك جهاز الدولة أو إنهاكه بضغط اقتصادي مبرمج؟
والجواب يكمن ان تجربة العراق فريدة بسبب الغزو الأمريكي عام 2003 الذي أدى إلى تدمير بنية الدولة والاقتصاد العراقي، وفرض تغييرات جذرية في النظام السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، يشترك العراق مع تلك الدول في نتائج سلبية مثل تدهور الاقتصاد وزيادة الفقر والبطالة.
صندوق النقد الدولي.. قناع التمويل ويد الإمبراطورية الناعمة
يُقدَّم صندوق النقد الدولي ظاهرياً كأداة لمساعدة الدول على تجاوز الأزمات الاقتصادية، لكنه في الواقع أحد أبرز أذرع الهيمنة المالية العالمية. دوره يتجاوز الدعم المالي، ليصبح وسيلة لإعادة تشكيل السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول المستدينة بما يتوافق مع مصالح القوى الكبرى، لا مع احتياجات الشعوب.
يعمل صندوق النقد الدولي على منح قروضاً للدول التي تواجه أزمات اقتصادية، لكن بشروط صارمة تُعرف بـ "برامج الإصلاح الهيكلي"، تشمل:
خفض الإنفاق العام (خصوصاً على الصحة والتعليم والدعم الحكومي).
خصخصة الشركات والمؤسسات الوطنية.
تحرير الأسواق وإزالة القيود على التجارة والاستثمار.
تثبيت أو تعويم العملة وفقًا لإملاءات السوق.
هذه الشروط، رغم أنها تُقدَّم كإصلاحات، تؤدي غالبًا إلى تفاقم الفقر، تهميش الطبقات الضعيفة، وبيع أصول الدولة الحيوية لشركات متعددة الجنسيات.
الأذرع الخفية..
الصندوق لا يعمل منفردا، بل بالتوازي مع البنك الدولي، ومؤسسات تصنيف ائتماني، وشبكات نفوذ سياسي وإعلامي تُطبّع مع السياسات النيوليبرالية وتشوّه بدائلها.
كثيرًا ما تُستخدم تقارير الصندوق كأداة لشرعنة التدخلات الدولية، أو لابتزاز الدول سياسيًا تحت غطاء اقتصادي.
كما يُستخدم لضبط الدول الناشئة ومنعها من الانفلات عن المنظومة الرأسمالية العالمية أو التحوّل نحو سياسات سيادية مستقلة.
فرضياته الأساسية تقوم على الإيمان المطلق بآليات السوق، واعتبار النمو الاقتصادي هو المعيار الوحيد للتقدم، حتى لو تمّ على حساب العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية.
بذلك، لا يمثّل صندوق النقد الدولي مجرّد مؤسسة مالية، بل أداة لإعادة إنتاج التبعية الاقتصادية، حيث يُعاد رسم خرائط النفوذ من خلال القروض لا المدافع، ومن خلال التوازنات المالية لا صناديق الاقتراع.
الاشتراكية المعاصرة.. استعادة الدولة الاجتماعية
إذا كان البديل عن هذا النظام هو العودة إلى نموذج اشتراكي كلاسيكي جامد، فستكون الدعوة محكومة سلفاً بالفشل. غير أن الاشتراكية اليوم، في صيغتها المعاصرة، ليست دعوة إلى مركزية بيروقراطية قاتلة، بل إلى عقلنة توزيع الثروة، واستعادة دور الدولة كحامية للعدالة لا كشرطي للأسواق.
أنموذج النرويج، على سبيل المثال، يكشف كيف يمكن لدولة صغيرة أن تدير ثروتها النفطية عبر صندوق سيادي يخدم الأجيال، لا الشركات. في أمريكا اللاتينية، تُظهر تجربة بوليفيا تحت حكم إيفو موراليس كيف أن تأميم الثروات الطبيعية لم يؤد إلى الانهيار بل إلى تحسين البنية التحتية وخفض الفقر بشكل غير مسبوق. وفي الصين، ورغم كل التعقيدات، يبقى التوازن بين التخطيط المركزي والسوق أداة للحفاظ على الاستقلال الاقتصادي والتقدم الصناعي.
من الفوضى إلى البديل.. الاشتراكية كخيار تحرري
ان الاشتراكية ليست وهماً أيديولوجياً، بل خياراً عقلانياً في مواجهة نظام دولي يُعيد إنتاج التبعية عبر آليات السوق. وهي، في العالم العربي، لم تفشل لأنها غير صالحة، بل لأنها حوربت من الخارج، وخُوّنت من الداخل. كل محاولة لبناء اقتصاد وطني مستقل، كما حدث في تجربة عبد الناصر أو في بعض ملامح ثورة 1958 في العراق، قوبلت بتآمر عالمي من أجل إعادة المنطقة إلى بيت الطاعة الرأسمالي.
ان السبيل إلى كسر هذه الحلقة يبدأ باستعادة النقاش حول ملكية الموارد، والعدالة التوزيعية، ودور الدولة، ضمن أفق لا يكتفي بالنقد، بل يؤسس لبناء مشروع اشتراكي واقعي، ديمقراطي، معاصر، يضمن كرامة الإنسان قبل أرباح المستثمر.
الاشتراكية المعاصرة.. من التمكين الاقتصادي إلى السيادة السياسية
إن الحل الاشتراكي، في صيغته المعاصرة، لا يقوم على مصادرة الملكية الخاصة أو شعارات الحرب الطبقية الكلاسيكية، بل على إعادة هندسة الاقتصاد بما يجعل الثروة وسيلة للكرامة لا أداة للهيمنة. نحن لا ندعو إلى النهج الستاليني، بل إلى نظام إنتاج وتوزيع يضع الإنسان لا السوق في مركزه.
في هذا النموذج، تُؤمّم القطاعات السيادية الكبرى: كالنفط، الغاز، المياه، الاتصالات، الطاقة، الزراعة الاستراتيجية، والمصارف الوطنية. لا بوصفها غنيمة للدولة البيروقراطية، بل كحق للمجتمع تدار عبر مجالس منتخبة تضم ممثلي العمال والفنيين والخبراء المحليين. على هذا النحو، تنزع الثروة من يد الشركات الأجنبية وتعاد إلى يد المواطن.
كما يعاد بناء نظام ضرائبي تصاعدي، يُحمّل الأثرياء والتكتلات المالية مسؤولية تمويل الصحة والتعليم والإسكان، لا تحميل الكادحين أعباء الفساد الذي لم يصنعوه.
الديمقراطية الاقتصادية.. الوجه الآخر للحرية..
لا يمكن بناء اشتراكية معاصرة دون دمقرطة القرار الاقتصادي. المواطن لا يكون حراً إن لم يكن قادراً على التحكم في لقمة عيشه، ومسكنه، ومستقبله المهني. ولهذا، تُنشأ في هذا النموذج مؤسسات تشاركية رقابية على الإنفاق العام، وتُكافَح الاحتكارات، وتحمى النقابات الحقيقية، لا النقابات المزيفة التابعة للسلطة.
وهنا تلعب التقنيات الحديثة دوراً في بناء اقتصاد شفاف، موزع، مقاوم للفساد، وقادر على التكيف مع الواقع لا الخضوع له.
لا يمكن لأي دولة في الشرق الأوسط أن تُنجز مشروعاً اشتراكياً وهي معزولة. الرأسمالية نظام شبكي عابر للحدود، ولا بد من مواجهته بشبكات مضادة. من هنا، فإن الحل يتطلب تحالفاً اقتصادياً إقليمياً بين دول العالم العربي – لا على أساس الشعارات القومية الجوفاء – بل عبر برامج تكامل: كالربط بشبكات سكك الحديد، ومشاريع إنتاج غذائي مشترك، واستثمارات علمية موحدة. وأنموذج "التحالف البوليفاري" في أمريكا اللاتينية يمكن أن يلهم مساراً مشابهاً بين العراق ودول العالم العربي المحيطة به وغيرها.
اشتراكية ضد الطغيان أيضاً
وهنا لا بد أن نقولها بوضوح.. الاشتراكية المعاصرة ليست فقط ضد الاستعمار الخارجي، بل ضد الاستبداد الداخلي. لا اشتراكية حقيقية دون حريات مدنية، ودون إعلام مستقل، ودون قضاء نزيه. فكم من أنظمة رفعت شعار "الاشتراكية" بينما كانت تسحق العمال وتسجن المثقفين وتحول الشعب إلى موظفين عند السلطة.
الاشتراكية التي ندعو إليها لا تختبئ خلف شعاراتها، بل تواجه الواقع المعقد بمشروع تحرري كامل اقتصادياً، سياسيا، ثقافيا. وهي ليست خلاصاً لفئة أو طبقة، بل أفق للإنسان العربي المغيب من المحيط إلى الخليج.
الاشتراكية كأفق للكرامة والتحرر
في زمنٍ تتكاثر فيه الخرائط وتتآكل فيه الأوطان من الداخل والخارج، تُطل الاشتراكية المعاصرة لا كأيديولوجيا جامدة، بل كأفق حيّ يعيد للإنسان العربي علاقته بالأرض، بالثروة، بالزمن، وبذاته. لا تنادي الاشتراكية اليوم بثورة دموية، بل بثورة عقلانية – روحية، تستعيد فكرة العدالة لا كشعار، بل كمؤسسة، وتستعيد الدولة لا كجهاز قمع، بل كضامن للكرامة، وتستعيد الاقتصاد لا كآلية ربح، بل كأداة لتحرير الإنسان من الحاجة والخوف.
لقد آن للشرق الأوسط أن يتحرر من قبضتين: قبضة الرأسمال العابر للحدود، وقبضة الطغيان المحلي الذي حول الدولة إلى شركة خاصة. الاشتراكية المعاصرة التي ننشدها هي فعل مقاومة للنهب، وبذرة أمل في تربة الخوف، ومشروع نهوض لأمة أُريد لها أن تبقى في قاع السلسلة الغذائية للرأسمالية العالمية.
فالاشتراكية ليست حلماً، بل ضرورة. وليست ماضياً يُستعاد، بل مستقبل يُصاغ.
فمن لا يحلم بالعدالة... لا يليق به أن يحيا بين الأحرار.