لم تكن كلمة "الطبقة" شائعة بين الشعب العراقي قبل الاحتلال البريطاني لمناطق الدولة العثمانية وقبل ان تتكون الدولة العراقية، ولم تكن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في ذلك الوقت كبيرة جدا، ولم يكن هناك ما يفرق بين ملكية الأفراد حينها أكثر من عربة يجرها حصان أو ساعة يد يمتلكها أحدهم. ولكن من ناحية أخرى، فإن أشياء مثل رفاهية الاستمرار في النوم حتى وقت متأخر من اليوم، أو بعض الحيود والتميز عن السلوك التقليدي والعادات الاجتماعية، أو عدم مساعدة ومشاركة الضعفاء بالطعام والملابس، أو الإثراء من خلال ممارسة الربا على حساب الجمهور، أو ارتداء ملابس فاخرة يمكن أن تترتب عليها تهمة الانتماء لمعسكر المستغلين للضعفاء وللفقراء.
لكن بعد دخول الفكر العلمي، والماركسي بالتحديد، جاء مصطلح «طبقة» وتم شرح معناها الاقتصادي العلمي لغالبية الشعب العراقي. وتم الكشف عن المعنى المادي وعلاقتها بعملية الانتاج والاقتصاد. وأكدت أهم الاحزاب الوطنية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي وجماعة الأهالي حينها على أن الكفاح الوطني له عدة جوانب وأن إلغاء الاستغلال الطبقي مرتبط بمكافحة الاستعمار. وبعد ثورة 14 تموز 1958 جاء قانون الإصلاح الزراعي وتم تحديد الانتماء الطبقي في الريف ومفهوم الإقطاع وهم "كل من يملك أرضا زراعية كبيرة ولا يعمل بنفسه" ويعتاش على استغلال "طبقة الفلاحين". وهكذا اصبحت "ملكية الأرض" و"رأس المال" و"العمال والفلاحون" وما إلى ذلك هي الأساس الرئيسي لتحديد الانتماء الطبقي، وهذه أشياء مرئية وملموسة ويمكن حسابها. قام الكثير من العلماء الغربيين في الماضي بتناول هذا الموضوع، مثل آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وأوغسطين تييري، وفرانسوا جيزو، وآخرين. واعتقدوا أن مثل هذه الطريقة الكمية والبديهية كانت سهلة الفهم وسهلة الاستخدام. ثم جاء كارل ماركس وسار على خطاهم ولكنه خطا خطوة أخرى إلى الأمام. قام ماركس بدراسة وتحليل المرحلة المبكرة من التصنيع في أوروبا، أي بداية تكون الورش وأصحاب الصناعات الصغيرة وظهور تكنولوجيات المداخن والمحركات البخارية والعمال الرثين واستغلال وفرض أعراف وقوانين وشروط ذاتية وعشوائية في الغرف الخلفية المظلمة وأصبحت المسألة الطبقية الشيء الأكثر أهمية وتم التشديد مرارا وتكرارا على ان نوعية وطريقة خلق الثروة وعلاقات الملكية هي الخصائص الأساسية للطبقة، وهكذا اصبحت من أهم المهام للعلوم الاجتماعية. ففي البيان الشيوعي، تم تقسيم المجتمع القائم إلى طبقتين رئيسيتين، البرجوازية والبروليتاريا، وتم تثبيت: "إن تاريخ كل المجتمعات السابقة هو تاريخ الصراعات بين الطبقات”.
بالرغم من ان ماركس لم يتمكن من معايشة وتحليل كل التطورات الاجتماعية التي حدثت بعد وفاته ولكن تعاليمه لاتزال تحتفظ بحيويتها، وليس هناك في الواقع الا سبب واحد فقط لذلك: ففجوة الانقسام بين الأغنياء والفقراء آخذة في التزايد، ولم تتناقص. وتشير الكثير من البيانات إلى أنه خلال الثلاثمائة عام منذ الثورة الصناعية في إنجلترا في القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا، لم تضيق الفجوة بين الأغنياء والفقراء في جميع أنحاء العالم أبدا، بل ازدادت بالفعل فحتى عام 2015 كانت ثروة 1 بالمائة من سكان الأرض تتجاوز إجمالي ملكية جميع سكان الأرض الآخرين. وهذا الواقع يشكل الخلفية لسلسلة من الظواهر مثل "احتلال وول ستريت" أو حركة ليلة وقوف "Nuit Debout" في فرنسا أو انتشار هجمات الإرهاب الدولي. وقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ في قمة مجموعة العشرين في هانغتشو عام 2016: "اليوم يبلغ معامل جيني في جميع أنحاء العالم حوالي 0.7 وبالتالي تجاوز الحد الحرج المعترف به عموما وهو 0.6. وهذا يتطلب منا أقصى قدر من الاهتمام." وهذا امر لاشك فيه (معامل جيني Gini coefficient نسبة للعالم كورادو جيني من المقاييس الهامة والأكثر شيوعا في قياس عدالة توزيع الدخل الوطني).
وكما تقول الحكمة الشائعة "التغيير هو قانون الكون" فظهرت اليوم مشاكل أخرى أكثر تعقيدا من زمن ماركس. بالرغم من المفهوم العام والصحيح للطبقة عند ماركس والذي يقول إن الانتماء الطبقي يتحدد من الموقع الاجتماعي للأفراد في عملية الانتاج لايزال ساريا وصحيحا، وهنا يجب أيضا التأكيد على أن من أهم ميزات هذا الموقع هو تحديد مقدار او نسبة الاستحواذ على الثروة الاجتماعية. أي أن الموقع الطبقي يتحدد أيضا بحصة المجموعة او الأفراد من عملية توزيع الدخل الوطني والثروة الوطنية ايضا.
المشكلة هي أنه مع تزايد نفوذ ودور (المال) وتعدد أشكال مصادر الدخل والثروة، وتزايد دور وأهمية تكنولوجيات المعلوماتية والعولمة في المرحلة المعاصرة من التصنيع، تغيرت بنية وأشكال الطبقات. كما وبرزت جوانب جديدة عقدت من لوحة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية وهذا مما جعل الأمر أكثر صعوبة في فهم وشرح الطبقات. والخشية أن يكون هذا سببا آخر لعدم الوضوح في فهم الطبقات للكثيرين. فبالنسبة للبعض، تبدأ حالة عدم اليقين عند مواجهتهم مثلا حقيقة أنه في مدينة ترير، المدينة التي ولد فيها ماركس وعاش فيها لمدة 17 عاما نجد أن "جميع العمال يمتلكون سيارة، ويستخدمون أفران الميكروويف ويعيشون حياة ممتعة شبيهة بحياة الطبقة المتوسطة ولا يمكن ملاحظة درجة فقرهم» كما قال المفكر الاقتصادي الأمريكي بول سامويلسون. علاوة على ذلك: إذا كان العامل في البلدان الناشئة هو مالك منزل ومساهما ومالكا لشركة صغيرة (أي رجل أعمال خاص يعمل عنده أقل من ثمانية أشخاص)، فهل لا يزال ينتمي إلى الطبقة العاملة؟ ’البروليتاريا’؟ وعلى عكس ذلك، يمكن ان يمتلك البعض أسهما او واردا من نشاط تجاري او اقتصادي وهو يعمل كرجل دين في مؤسسة دينية أو موظف بدرجة مدير ويتقاضى أجر أو أن يكون إعلاميا أو سياسيا فنانا يعمل لحسابه الخاص، فهل يعتبر هذا إذن جزءا من "البروليتاريا" أيضا؟ والآن بعد أن لم تعد العلاقة بين الغنى والفقر مرتبطة بالعلاقة بين العمل ومالك رأس المال المباشر، كيف ينبغي لنا أن نتعامل مع ظواهر غريبة مثل "الموظفين" السمان و"الرأسماليين" النحفاء؟
أدى الاحتلال الأجنبي وإلغاء مؤسسات الدولة بعد تغيير النظام السياسي للمجتمع العراقي إلى نشؤ وظهور تمايز طبقي جديد، فبعد تصفية وتفكيك الكثير من مؤسسات الدولة التي كانت راسخة زمن النظام الذي كان يقوده حزب البعث بفكر تسلطي مركزي، وتشكل وضع اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد، فجاءت حركات وتنظيمات سياسية أغلبها دينية، من خارج المجتمع العراقي ولها علاقات بمجتمعات خارج الوطن، وسيطرت على السلطة وأصبحت هي المتنفذة والمسيطرة على مداخيل الدولة ( من خلال السلطة على توزيع الثروة والنفوذ الرواتب والامتيازات الفلكية). وتشكل هذا النظام الجديد على أساس توزيع حصص النفوذ والسلطة وبالتالي الثروة وعلى أساس مفهوم أرادوا ترسيخه وسمي بالمكونات وتحاصص او توافق احزابها. وتعني هذه المكونات، بمفهوم أحزاب السلطة، فئات الطوائف الدينية والمذهبية والاثنية العرقية. وبرزت شخصيات ومجاميع تتصدرهذه الاحزاب الطائفية واخذت تدعي احتكار تمثيل هذه المكونات وبدأت تحرض على التقاتل والعداء بين هذه المكونات لتبرر وجودها وسلطتها، ولا تعمل لمصلحة رفاه الشعب ونمو اقتصاده، بل ينصب جل تركيزها وهمها على الحصول والاستحواذ على حصص من السلطة وبالتالي من الثروة الوطنية.
وبما أن أكبر مصدر للدخل في العراق هو مبيعات النفط الذي يشكل المورد الأساسي لميزانية الدولة وأن إنفاق هذه الواردات يتم من خلال مؤسسات الدولة التي تحكمها هذه الأحزاب، أخذت هذه الشخصيات والمجاميع المتنفذة تتحاصص المراكز ومواقع التأثيرالاقتصادي بهدف تقاسم الثروة الوطنية والدخل الوطني. وهكذا نشأت منظومة طبقية جديدة في العراق بعد 2003 تستند في تكوين ثروتها على الجهاز الحكومي والوظيفي المسيطر على مؤسسات الدولة وتتقاسم الثروة بينها. وللدفع باتجاه استدامة هذا الوضع بدأت تدعم نظامها “الجديد” بمنظومات سياسية وتشكيلات أمنية ومؤسسات عقائدية فكرية وعسكرية. وصبغت هذه الطبقة المستغلة قشرتها بطابع ديني طائفي وبشعارات إثنية. وبنت أسس بقائها من خلال تحالفاتها وخدمتها لقوى خارجية إقليمية غير عراقية.
وأخذت هذه الطبقة الناشئة من خلال أفراد أحزابها تدعم قيم انتشار الفساد الإداري والمالي بحيث أصبح سمة لكثير من مؤسسات الدولة. فانتشرت المشاريع الوهمية والتوظيف الفضائي وتهريب العملة والتجارة بالمواد الممنوعة تحت حماية وتستر من هذه المجاميع المهيمنة على السلطة التي شكلت سبيلا أساسيا لحيازتها على المال العام.
استعمل الماركسييون في القرن العشرين مصطلح البرجوازية الكومبرادورية لوصف طبقة نشأت في بلدان المستعمرات السابقة. والكومبرادور كلمة برتغالية الاصل تعني المشتري، مشتقة من الكلمة اللاتينية comparare ، والتي تعني الشراء. استعاروا ذلك من الاستخدام الأصلي للكلمة في شرق آسيا فهكذا كان يسمى الفرد المحلي الذي يعمل خادم عند الأسر الأوروبية في جنوب الصين أو في المستعمرة البرتغالية المجاورة ماكاو - وكان هؤلاء الخدم يذهبون إلى السوق لمقايضة بضائع أسيادهم. ثم تطور المصطلح ليعني الموردين الأصليين المتعاقدين الذين يعملون لدى شركات أجنبية أو المديرين الأصليين للشركات في شرق آسيا. شغل الكومبرادور مناصب مهمة في جنوب الصين - شراء وبيع الشاي والحرير والقطن والغزل للشركات الأجنبية والعمل في البنوك المملوكة للأجانب. المصطلحات الماركسية وضعت البرجوازية الكومبرادورية، التي يُنظر إليها على أنها تخدم مصالح القوى الإمبريالية الأجنبية، في التضاد والتناحر مع البرجوازية الوطنية، التي يُنظر إليها على أنها تعارض الإمبريالية الأجنبية وتروج لاستقلال تطور بلادها، وبالتالي، يمكن أن تكون، في بعض الاحيان، حليفًا لقوى الشعب التي تسعى للتحرر والرفاه والسيادة على اقتصادها.
هل نجد في العراق فئات اجتماعية مهيمنة نتيجة تحالفها وخدمتها للمصالح الاجنبية؟ اذا كان الجواب نعم، فعلى الماركسيين تحديدها ودراستها وتحديد الطبقات المتضررة منها والسعي للتحالف مع طبقات وفئات الشعب لمتضررة. وربما يمكننا القول ان ظاهرة “كومبرادور العراق” أخذت تشمل كبار سياسيي الأحزاب وقادة ميلشياتها وكبار الموظفين المستفيدين منها. هنا يجب التوعية والكشف عن الصراع الحقيقي داخل المجتمع وهو الصراع بين الطبقات العميلة والمتخادمة مع الأجنبي والتي أثرت على حساب إفقار الشعب ونهب ثرواته متسترة باغلفة دينية وطائفية وقومية.
إن رصد سياسة الطبقات وتغيراتها تشكل نشاطا رئيسيا لليسار. وإذا لم يتحدث اليسار عن "الفقراء"، و"الاستغلال" و”التمييز”، و"الفئات المحرومة"، فهذا يعني ببساطة أنه يبتعد عن مهمته وموضوعه. إن الحاجة تستمر لفهم التغير والتحور في الطبقات، ومن أجل التحليل الطبقي على الأقل لأن التحليل الطبقي هو مستلزم أساسي لفهم تطورات المجتمع. ويجب علينا البدء بالحديث عن موضوع الفقر والغنى وتوزيع الثروة والسلطة والنفوذ في العراق الحالي. لان مصطلح "الطبقة" أصبح اليوم بحاجة لفهمه بدقة أكبر ليكون فعالا ومجديا، وهذا لا يجعل الأمور أيسر، فاليسار بحاجة إلى مناقشة التفاصيل الثانوية والدقيقة. لكن للأسف نجد احيانا بعض الذين يستندون على المفاهيم القديمة ويريدون هدم كل الحواجز والبدء فورا مع الجماهير بتحرير العالم بشكل عام، ولكن عندما يتعلق الأمر بإجراءات ملموسة تخص الوطن، فتجدهم لا يعرفون أين هي قاعدتهم الجماهيرية ومن هو هدف تعبئتهم، وهم لا يعرفون أين هم حلفاؤهم المحتملون، فلا يزالون يستخدمون معيار الثورة المجردة. وحتما ستكون النتيجة هي أنهم يحصرون حلفاءهم بدائرة صغيرة جدا. ولكن إذا استخدموا مفهوم يشمل جميع المتضررين من نظام المحاصصة الحزبية الطائفية وعلاقات الأحزاب المتسلطة وسياسيها الفاسدين الغارقين بنهب المال العام والمتخادمين مع الرأسمال الاجنبي المتستر بالقومية والدين والطائفة كمعيار، فإن النتيجة المحتملة ستكون توسيع دائرة الحلفاء على نطاق واسع للغاية بحيث يتم ضم غالبية فئات الشعب تقريبا من أجل الإصلاح والتغيير.