اخر الاخبار

في كل عام، حين يحل الأول من أيار، تعود إلى الواجهة ذكرى يومٍ لم يعد مجرد احتفال رمزي بقدر ما هو مناسبة مشحونة بالدلالات الاجتماعية والسياسية والتاريخية. إنه يوم العمال العالمي، اليوم الذي اختارته الطبقة العاملة منذ أواخر القرن التاسع عشر لتعلن من خلاله وجودها وحقوقها، وترسخ موقعها كقوة فاعلة في المجتمع. ومنذ ذلك الحين، غدا هذا اليوم أحد أعمدة الوعي التقدمي العالمي، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بنضالات الحركات العمالية والنقابات والأحزاب اليسارية التي جعلت من قضايا الكادحين جوهراً لبرامجها السياسية.

وترجع جذور هذا اليوم إلى نضالات العمال الأميركيين في شيكاغو عام 1886، حين أضربوا للمطالبة بيوم عمل من ثماني ساعات، وتعرضوا لقمع دموي فيما عُرف بـ"مجزرة هايماركت". سرعان ما انتشر صدى هذه الانتفاضة في أرجاء العالم، وتبناها العمال في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا كرمز للكفاح ضد الاستغلال الطبقي. ومنذ ذلك الحين، أصبح الأول من أيار يوماً عالمياً للتظاهر والتأمل والتعبئة السياسية، لا مجرد احتفال شكلي.

ما كان لهذا اليوم أن يترسّخ في الوجدان العالمي لولا تبنيه من قبل الأحزاب التقدمية، خاصة الاشتراكية والشيوعية والديمقراطية الاجتماعية، التي أدركت أن النضال العمالي ليس فقط مطلباً نقابياً، بل تعبير عن صراع عميق بين الطبقات. غدا الأول من أيار لحظة سنوية لإعادة تأكيد وحدة مصير العمال، وتجديد الالتزام بالعدالة الاجتماعية.

وفي العالم العربي، لعبت الأحزاب اليسارية دوراً محورياً في تحويل هذا اليوم إلى منبر للمطالبة بالحقوق، ومواجهة الاستعمار والرجعية والتبعية الاقتصادية. وفي العراق خاصة، شكل الأول من أيار جزءاً من الذاكرة النضالية لحركات عمالية تصدت لقمع الأنظمة المتعاقبة، وسعت لبناء وعي طبقي رغم ظروف القمع والتهميش.

لكن أهمية هذا اليوم تتضاعف حين ننظر إلى الواقع العراقي المعاصر. في ظل الفوضى السياسية، والانقسام الطائفي، والفساد المستشري، وغياب الرؤية الاقتصادية، تبدو الطبقة العاملة العراقية اليوم مجردة من أدوات الحماية. فبين بطالة مرتفعة، وشلل في القطاعات الإنتاجية، وانتشار واسع للوظائف الهشة والعمل بلا ضمان، تتحول معاناة العامل إلى عنوان يومي.

الأكثر مأساوية هو أن هذا الاستغلال لا يقتصر على سوق العمل، بل يمتد إلى الأسواق نفسها، حيث يتحكم المحتكرون بالأسعار في غياب رقابة الدولة، فيستنزف دخل المواطن بلا مبرر سوى جشع رأس المال المحلي وشبكات النفوذ السياسي. وهذا ما يجعل من الأول من أيار فرصةً حقيقية للتعلم والوعي، للتفكر في بنية الاقتصاد الذي يحاصر الفقراء، ويحولهم إلى وقود لنظام يعيش على الاستغلال والنهب المنظم.

في هذا السياق، لا بد أن نستعيد كلمات المفكرين الذين انشغلوا بكرامة العامل، وبحقه في حياة لا تختزل في العرق والحرمان. حيث يقول كارل ماركس: "العمال لا يملكون إلا أن يبيعوا وقتهم، لكن من يشتري هذا الوقت يملك أن يستغلهم إلى أقصى حد. هذا ليس تبادلاً حراً، بل استغلال مقنن."

ويحذر أنطونيو غرامشي: "أخطر الأوقات هي تلك التي لا يعي فيها الناس أنهم مستغَلون، بل يتوهمون أن معاناتهم قدر."

أما المؤرخ إريك هوبزباوم فيؤكد: "الأول من أيار هو اليوم الوحيد الذي يمتلك فيه الكادحون زمام التاريخ، لا كضحايا بل كصانعين له."

ويضيف بول لافارغ، ساخراً بمرارة: "ليس العمل وحده ما يُستغل، بل حتى الراحة تُصادر من الفقراء باسم الإنتاجية."

هذه الكلمات ليست مجرد شعارات تاريخية، بل نداءات متجددة يمكن أن تمنح اليوم معناه الحقيقي في عراق غارق في اللامساواة والاحتكار السياسي والاقتصادي.

لذا فيعتبر اليوم الاول من أيار، ليس فقط يوماً للذكرى، بل منارة في زمن معتم، وجرس إنذار في وجه الصمت والتواطؤ. إنه اليوم الذي يجب أن يستعاد فيه صوت العامل، لا في الشعارات الجوفاء، بل في السياسات العادلة، وفي التنظيم النقابي الحقيقي، وفي الوعي الجمعي الذي لا يقبل الاستعباد.

في عراق اليوم، الأول من أيار يجب أن يتحول إلى منصة للمحاسبة، وإعادة بناء التضامن الاجتماعي، وصياغة خطاب سياسي واقتصادي يجعل من الإنسان العامل لا ضحية، بل شريكاً في إعادة بناء وطنه، بعيداً عن هيمنة رأس المال وتحالفات الطوائف.

عرض مقالات: