نخل السماوة قال أشياء كثيرة وانحنى صامداً، كان مطربنا الريفي قد أوجع قلبه في الغناء عـــن ( نخل السماوة يكول طرتني سمرة .. سعف وكرب ظليت ما بيه تمرة ).
لقد أفشى النخل سر عشقه للناس وتغلغل في وجدانهم.. النخلة تراها باسقة شامخة، تتباهى بطولها ورشاقتها، بتمرها الطيب وعطاءها السخي ترضى بالقليل وتعطي الكثير، نمت وارتوت من مياه الرافدين، شكلت واحات تظلل وتطعم أبناءها الذاهب والقادم، النخلة رمز الصبر والعطاء، إذ تتحمل الظروف المناخية الصعبة، ولا تحتاج لرعايتها سوى القليل، قياساً بالأشجار الأخرى، إضافة إلى إنها تنمو طويلاً لا تحمل تفرعات جانبية (أغصان) وتكون مظللة للحمضيات والفواكه والخضار.
عمتنا النخلة قد ذوت الآن، وانحنى جذعها السامق، حيث تقول آخر دراسة علمية (إن النخلة تعاني أمراضا كثيرة، ولأسباب عديدة وقد أصيبت بمرض وبائي يدعى ظاهرة الانحناء). هل أثقل قامتها الطغاة وجور الحكام الفاسدين، كونها أعرق من عشتار وأقدم أنثى عراقية أطبق عليها قانون قطع الأنسال سيء الصيت؟
إن مرض الانحناء يستهدف قلب النخلة فيتعفن، وهذا يؤدي إلى انحنائها التام ومن ثم موتها، إذا لم يتم علاجها مبكراً، حيث يًعد من الأمراض حديثة الظهور في نخيل بلادنا لم يسبق تسجيله، لكنه ظهر في نخيل العراق مع بداية السبعينيات، ويُعد هذا المرض من الظواهر الخطيرة التي تسبب خسائر فادحة ببساتين النخيل.
لقد أشاد الشعراء وتفننوا بقصائدهم حول النخلة إذ عشقها العراقيون، فقال شاعر العرب الأكبر الخالد طيب الذكر محمد مهدي الجواهري ((سلاماً على باسقات النخيل)) لقد اقترنت الباسقة بأرض الرافدين وهما توءمان منذ ولد العراق، أو كان منذ أول خطوات الإنسان، حيث وجدت النخلة، وأدخلها الإنسان العراقي إلى بيته، حيث سعفها وسادته وسريره، وجذعها سقفه الذي يأويه، وكربها لسرج الشموع لنذوره في مواكب أعياده.
كانت النخلة السومرية ترمز للحب الأزلي إذ تقول الكتابات المسمارية (إن النخلة شجرة مقدسة تزين معابد الأشوريين وقبلهم السومريين، وسعفها علامة فرح في مواكب أعيادهم وتؤكد الوثائق التاريخية إن أرض السواد كانت تغطيها البساتين وغابات النخيل، وما ذكرت بلاد السواد إلا وكانت النخلة رمزاً وقراراً لذلك.
شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا
إن النخلة تثمر بالرغم من وصف مناخ العراق (بالمناخ القاري المتطرف بعض الشيء)، إلا أنها اليوم تهتز لا يتساقط منها الرطب.
كان من يزور من زار أرض السواد، يدهش للطرق التي يمر بها حيث تظللها أشجار النخيل، ويقول رحال: إن أرض السواد أكثر بقاع العالم نخيلاً، فيها ما يربو على 30 مليون نخلة، ويُذكر إن بساتين النخيل كانت تنتج أجود أنواع التمور، ويقول الباحث عبد الرزاق الهلالي في كتاب (معجم العراق) هناك أكثر من 358 نوع من التمور المختلفة، وفي دراستنا في كلية الزراعة بجامعة بغداد/ قسم البستنة وعند ذكر أصناف التمور في العراق بلغ عددها 450 صنف أبرزها ( البرحي والخضراوي والحلاوي والبريم والأشرسي والتبرزل والسايد والبربن والخستاوي الأكثر شهرة الزهدي الذي يصنع من الدبس والخل والمشروبات الروحية. لكن الآن في الأسواق هو من النوعية الرديئة، وقد أسهم في عزوف الفلاح عن زراعة وإدارة النخيل لقلة مردودها الاقتصادي وتحصيل حاصل للإهمال المريع للعملية الزراعية برمتها خاصة بعد حصول التغيير في 2003 وتفشي الفساد واستيراد التمور من إيران والسعودية والإمارات.
لقد سحرت النخلة عاشقاً عراقياً (الشاعر السياب) طيب الذكر ((عيناك غابتا نخيل ساعة السحر)) النخلة كانت في وجدان العراقي، وهي الصابرة المعطاء، تتحمل الظروف القاسية ولا تحتاج إلا القليل من الرعاية.
إن زراعة النخيل منذ القدم تتم بطريقتين، الأولى بواسطة الفسائل (التالات) وهي الأنجح والأسرع والثانية الزراعة النسيجية الحديثة وهي الآن الشائعة في معظم بلاد العالم ومنها العراق والبلدان العربية الأخرى.
تؤكد الدراسات العراقية الحديثة – إن عدد النخيل تراجع إلى أقل من 15 مليون نخلة حالياً بعد أن كانت أكثر من 30 مليون نخلة، وتشير الدراسات إلى أن الحروب المدمرة التي دخلها العراق منذ عام 1980 ولغاية 1991 أدت إلى هلاك الكثير من أشجار النخيل التي كانت مسرحاً للمواجهة إضافة إلى فتح وإنشاء الطرق وتوسع المدن العشوائي الذي قضى على الكثير من بساتين النخيل، وتذكر الدراسات – في العقود الماضية إن لغزارة إنتاج التمور العراقية الوفيرة كان يصدر من التمور سنوياً الآلاف من الأطنان إلى الخارج، لكن ما يباع منها في الأسواق المحلية الأصناف الرديئة ومع ذلك أسعارها مرتفعة نسبياً.
ومن الطريف أن نذكر أنَ أحد الولاة من الحكام العثمانيين دخل بغداد في (في حمأة القيظ) وتسمى عندنا (لكاحات التمر) فتساءل لماذا كل هذا الحر؟ فقيل للوالي من أجل أن ينضج التمر، فتفتق ذهن الوالي وأمر بإزالة النخيل كي يتوقف الحر.
هل أعاد التاريخ نفسه ليدل على جهل الحكام الفاسدين الجدد الذين أسهموا من خلال سياساتهم العرجاء تدمير الزراعة بكل أنواعها النباتي والحيواني لصالح الجيران وسياسة الاستيراد حيث حتى الخس والكرفس والفجل تم استيراده من الجارة إيران.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* مهندس زراعي استشاري