اخر الاخبار

«لقد سئمنا من الرسائل المختومة بختم المراقب؛ سئمنا من وضعنا في السجن لأسباب نجهلها؛ سئمنا الفضائح اليومية التي تنكشف لنا عندما نستيقظ وننساها عند المساء؛ سئمنا من الوزراء الحمقى الذين يدعون أنهم يقودوننا، في حين أنهم هم أنفسهم لا يعرفون كيف يتصرفون بشكل جيد..ِ!»

هذا الحوار المقتبس من فيلم "بومارشيه" من اخراج أدوارد كولينارو عام 1996- بيير أوجستين كارون دي بومارشيه، 1732-1799، رجل أعمال وكاتب مسرحي وموسيقي، في مشهد محاكمته بموجب أوامر ملكية - يذكرنا بأن عام 1789 كان أيضا ثورة قانونية ضد التعسف ومن أجل العدالة.

ففي هذا العام وتحديداً في 26 آب/أغسطس صدر إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أكد على المساواة أمام القانون وعهد إلى الممثلين المنتخبين للأمة بمهمة تحديد الجرائم والمخالفات، بعد نقاش علني. وحدد الضمانات الممنوحة للمواطنين، مثل الفصل بين السلطات أو قرينة البراءة، وخضوع السلطة التنفيذية والشرطة للمصلحة العامة، أو حتى فرض عقوبات بالسجن عند الضرورة القصوى.

ولعدة قرون كان تحقيق هذه المبادئ موضوع معركة مستمرة. في أنكلترا، أدخل الميثاق العظيم فكرة المساواة أمام القانون في عام 1215، وفي عام 1679 انتزع البرلمان الانجليزي من الملك تشارلز الثاني مبدأ المثول أمام القضاء وهو ضامن الحرية الفردية، لأنه يحظر الاحتجاز التعسفي من خلال اشتراط عرض السجين أمام القضاء. وهكذا فإن النضال المستمر منذ قرون من أجل " ضمان حقوق الانسان" يتأرجح بين التقدم والنكوص، بما يتناسب مع توازن القوى السياسية وكثافة التعبئة الشعبية. إن تطور القانون والمؤسسات والاخلاق العامة والعلاقات بين الشرطة والقضاء، يجعل من الممكن وصف كل عصر بها. وهنا نتساءل: ألا تحمل المرحلة الحالية كل سمات عصر التراجع والنكوص؟

لقد أدى النضال الدؤوب سواء للأفكار او الشخصيات إلى حدوث تقدم كبير خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؛ ففي أوربا كان لصعود الفكر الاشتراكي وإضرابات العمال دور في حصولهم على حق التعبير والتمثيل النقابي. وفي فرنسا، أدى ظهور النظام الجمهوري المستوحى من الثورة الفرنسية إلى مناقشات سياسية ومن ثم إلى الاعتراف بحرية تكوين الجمعيات عام 1881، وحق الاشخاص المتهمين في الاستعانة بمحام (قانون كونستانس الصادر في 8 ديسمبر/كانون الاول 1897)، وطوال القرن العشرين، أدت المعارك التي قادتها الناشطة البريطانية ايميلين بانكهرست أو الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار، ثم المظاهرات النسوية الكبرى في السبعينيات إلى تمكين المرأة من التحرر السياسي والقانوني.

وكان للحروب دور محفز أو مسرع، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبفعل الجرائم المروعة التي ارتكبها النازيون والنظام الياباني، بدأ العالم باعتماد معاهدات تضمن الحقوق الأساسية للجميع (دون تميز على أساس العرق، الجنس، اللغة أو الدين)، مثل الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948، الذي ستعتمد عليه الشعوب المستعمرة للحصول على الاعتراف الدولي لتطلعاتها المشروعة بالحرية والاستقلال. وستتبع ذلك نصوص أخرى مثل ميثاقي عام 1966، يتعلق أحدهما بالحقوق المدنية والسياسية والآخر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يكملها العديد من الوثائق الإقليمية مثل الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الانسان والحريات السياسية 1951 أو الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب 1981.

أما مراحل التراجع والنكوص فهي تتبع غالبا حدوث تغيرات في النظام السياسي، مثل إنشاء الامبراطورية الثانية عام 1852 (الامبراطورية الفرنسية، نابليون الثالث) أو ظهور حكومة فيشي في فرنسا عام 1940، وتتبع أيضاً أحداثاً عالمية التأثير على أمن الاشخاص والممتلكات. وهكذا أدت هجمات 11 سبتمبر/ايلول 2001، واندلاع الحرب ضد الإرهاب إلى تعميم إجراءات الطوارئ وتقيد الحريات تحت ذريعة الأمن. وبالتالي جرى توسع منتظم للصلاحيات المعطاة للشرطة:

- زيادة فترات الاحتجاز، زيادة في إجراءات التحقق من الهوية، زيادة مراقبة السكان وتآكل الضمانات القضائية (تقليل الحدود الزمنية للاستئنافات، وضع العقبات امام حقوق الدفاع، أنشاء جرائم ذات معالم غامضة مثل " مشروع ارهابي فردي " أو " الدفاع عن الارهاب " (1)

- الاستخدام المنتظم لإعلان حالات الطوارئ – بما في ذلك احتواء أعمال الشغب في المناطق الحضرية، كما حدث في فرنسا عام 2005، وما يحصل داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وأخذ نظام الطوارئ الاستثنائي يميل إلى أن يصبح قاعدة الديمقراطية الليبرالية. ففي فرنسا اعتمد البرلمان الفرنسي 32 تشريعا يتعلق ب " الأمن " منذ سلسلة الهجمات على المتاجر الباريسية عام 1986 والتي تسمى بقوانين " باسكوا" ، ومع ذلك لا يزال وزير الداخلية الفرنسي الحالي يطالب بوضع قانون الطوارئ جديد لعام 2025، (2

لكن الأخطر هنا هو تمكن السياسات الأمنية الرامية إلى القضاء على الحريات من التجذر ارتباطاً مع ضعف الفكر وخلق الظروف الملائمة لقبولها من عامة الناس. وهكذا نجد في الولايات المتحدة الامريكية ترويجاً لما يعرف بنظرية «النافذة المكسورة» منذ أن أطلقها جيمس ويلسون وجورج كيلنغ عام 1982 والتي تطالب بتطبيق اشد العقوبات على من يمارس اعمال الشغب (تكسير نافذة مثلاُ) لأنها إشارة إلى إمكانية قيام المشاغب بجريمة أكبر مستقبلاً (4) وعادة ما يكون المشاغب قادماً من الأحياء الفقيرة، وهو غير قادر، حسب هذه النظرية، على إصلاح سلوكه ويجب أن يتحمل تبعات فعله على الفور، وأن يعاقب بأشد العقوبات حتى لو كان مراهقا. أما في فرنسا، فقد اقترح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (2007-2012)، الأخذ بالنظريات الحتمية المضحكة، بمعنى امكانية اكتشاف مجرمي المستقبل من مرحلة الحضانة. وعلى مدى عقود من الزمن، ظلت الموارد المخصصة للحماية القضائية للشباب والمعلمين والقضاة والمدرسين تتناقص لأسباب تتعلق بالميزانية ولكنها في الحقيقة تتعلق بالخيارات الفلسفية والايدولوجية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

– لوموند دبلوماتيك – شباط 2025

(1) Lire Vincent Sizaire, «Quand parler de «terrorisme » ? », Le Monde diplomatique, août 2016.

(2) «Chronologie de la législation antiterroriste depuis les années 1980 ».

(3) Lire Patrick Baudouin, « Perdre en liberté sans gagner en sécurité », Le Monde diplomatique, décembre 2015.

(4) Lire Loïc Wacquant, « Sur quelques contes sécuritaires venus d’Amérique», Le Monde diplomatique, mai 2002.

عرض مقالات: