اخر الاخبار

تتعرض أغلب شوارع بغداد والمدن العراقية للغرق في الخريف والشتاء، بعد هطول الأمطار بشكل كثيف، باستمرار، مما يسبب تهديدا لصحة المواطنين وسلامتهم وتعطيل حركة المرور إضافة لأضرار، أحيانا كبيرة، للمنشئات. وبعدها تبدأ عروض السياسيين والمهندسين والمعماريين والإداريين المسؤولين أمام شاشات التلفزيون لتقديم الأعذار او للإجابة على أسئلة الصحفيين ليبرروا العجز في السيطرة على مياه الأمطار. ويستمر أغلب حججهم وأفكارهم تدور وتجتر أفكارا قديمة لن تحل المسألة، بل تسبب إهدار مزيد من الموارد وتفاقم الظاهرة، ثم يقف هؤلاء الأشخاص أنفسهم على الأغلب، في أشهر الصيف، ليبرروا شحة موارد المياه في موسم الحر.

وكثيرون أدركوا المفارقة، التي تكمن في غزارة فيض مياه الأمطار في بعض المواسم يقابلها الجفاف والشحة في مواسم أخرى وخاصة في الصيف. هذه المفارقة دفعت المسؤولين والمختصين في بلدان العالم للتفكير بحلول لتصريف مياه الأمطار غير الحلول التقليدية المتبعة باستخدام شبكات المجاري.

إن الفكر الذي دفع لبناء شبكات المجاري المركزية استند على فكر قصير النظر وغير مستدام، خلاصته الاستمرار بمشاريع لصب مزيد من الخرسانة الصلبة وفرش طبقات الاسفلت غير النفاذي وبهذا يزداد إقفال مساحات أكبر من سطح الأراضي، فتتركز كميات الأمطار الهاطلة بشكل أكبر لتشكل سيولا كبيرة تستدعي صرفها بواسطة شبكات مجاري. وشبكات المجاري، إضافة لكلف إنشائها العالية، تتطلب نفقات وجهود باهضة لإدامتها وصيانتها، إضافة لتسببها بإهدار ثروة مهمة، هي المياه مما يؤثر بشكل سلبي على البيئة والمناخ والتنمية المستدامة.

وبهدف التوعية ولتوجيه الأنظار إلى الأساليب الحديثة في هذا المجال، يعرض هذا المقال، بإيجاز المفاهيم المستدامة، العصرية والفعالة، في إدارة السيطرة على مياه الأمطار في المدن تحت ظروف تأثيرات وتقلبات التغير المناخي التي يعيشها العراق. وهي رؤية بيئية تقدمية توصل لها الخبراء والمختصون في دول العالم، وساهم كاتب هذا المقال بتنفيذ وتجربة بعضها والتي أثبتت جدواها.   

تطورات إدارة مياه الأمطار

عرفت البشرية إدارة مياه الأمطار بعد استقرار البشر وتجمعهم في مدن. ولحد اليوم يتم العثور على عدد من منظومات الصرف القديمة، مثل (المجاري العظيمةCloaca maxima ) في روما التي بُنيت في حوالي عام 600 قبل الميلاد.

وكانت مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي، في معظم منظومات تصريف المياه، تخلط سوية وكلاهما يعتبر خطرا يجب إزالته من المدن، في أسرع وقت ممكن، للحد من مخاطر الفيضانات وحماية السكان من الأوبئة.

وبعد الثورة الصناعية بدأ إنشاء شبكات أنابيب مياه الأمطار تحت الأرض وشاعت في معظم مدن أوروبا وأمريكا الشمالية في منتصف القرن التاسع عشر، بعد عملية التحضر السريعة. وكذلك اتبع العراق نفس النهج، فتم بناء المجاري مع نمو المدن الكبيرة.

كانت المجاري الأولى في حارات مدن العراق عبارة عن مجار مفتوحة، فيتم عمل ميل باتجاه ساقية صغيرة في وسط الطريق ولهذه أيضا ميل طولي باتجاه مسارها نحو النهر، فتتجمع فيها مياه الأمطار وتصرف. 

في مطلع خمسينيات القرن العشرين، تأسست دائرة المجاري التابعة لأمانة بغداد، وفي بداية الستينات تم انشاء خطوط المجاري الرئيسية وامتدت شرق دجلة من الأعظمية حتى محطتي معالجة المياه الثقيلة في الرستمية جنوب بغداد، وبعدها الخط الرئيسي الآخر الذي يسمى “زبلن” وهو يمتد بموازاة الخط الشرقي ويغطي مناطق اضافية منها مدينة الصدر، ثم الخط الغربي في جانب الكرخ ويمتد من الكاظمية مرورا بالمنصور حتى جنوب منطقة الدورة ولاحقا تم انشاء محطة الكرخ لمعالجة المياه الثقيلة.

ونتيجة إهمال أعمال الصيانة والإدامة تعاني هذه الشبكات، حاليا، من مشاكل جدية:

1- اختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الأمطار وأحيانا مع مياه الشرب،

2- وجود تخسفات وتشققات في أنابيب شبكة مياه الشرب،

3- انسدادات انابيب الشبكة تمنع جريان المياه وتصريفها.

4- وجود أنابيب ازبستية، وهذه مادة محرمة دوليا لأن استعمالها يعرض صحة السكان للخطر وللإصابة بالسرطانات.

5- فقدان الكثير من أغطية فتحات المانهولات في الشوارع، ما يسبب أضرارا للسابلة وللمركبات.

6- رداءة تنظيف البالوعات الجانبية في الطرق، ووضع بقايا ونفايات التنظيف بجانب فتحات المجاري وعدم رفعها، فتسبب تلوثا إضافيا.

السياسة والعقلية السائدة هي الدعوات التقليدية لزيادة أطوال شبكات أنابيب المجاري، وهذه سياسة غير مجدية ويجب ان تتغير.

فالعلة تكمن في الطريقة التي توسعت وشيدت فيها المدن، التي أدت إلى تعطيل توازن دورة المياه الطبيعية، وسببت هذا التعارض بين الدرجة العالية التي بلغتها عمليات إقفال أسطح الأرض بالخرسانة والاسفلت الغير نفاذي، وبهذا تم منع تسرب وترشح مياه الأمطار إلى داخل الأرض، وبين الحالة الطبيعية في المناطق البكر غير المسكونة او المسكونة بشكل خفيف، وهذا الفعل غير الطبيعي يؤدي إلى زيادة تراكم وجريان سيول الماء عند هطول الأمطار بشكل مركز وشديد، (انظر الشكل1).

إن جريان مياه الأمطار على الأسطح التي أغلقت، وتصريفها بطريقة الصرف التقليدية يعطل النظام الطبيعي ويؤدي إلى جريان سطحي مركز لكميات مياه كبيرة في أماكن محددة مما يصعب السيطرة عليها وإدارتها. وهكذا، وخاصة بعد هطول الأمطار الغزيرة، تشهد شبكات صرف مياه الأمطار زيادة كبيرة في الأحمال، مما يؤدي إلى حدوث الفيضانات الضارة في المناطق الحضرية الكثيفة السكان، كما يحدث في بغداد ومدن العراق بشكل متكرر.

وعلاوة على ذلك، فإن أثار تغير أحوال الطقس المتطرفة لا تشمل الأمطار الغزيرة فحسب، بل أيضا تسبب زيادة حدوث ما يسمى: بالجزر أو التأثيرات الحرارية في المدن -Urban heat islands/effect- وحالات الجفاف الطويلة الأمد (انظر الشكل 2). فتشهد المناطق المقفلة والمختومة بالأسفلت والخرسانة بكثافة في المدن، شدة في سخونة واجهات الأبنية الزجاجية والفولاذية والخرسانية، فلا يحدث أي تبريد بواسطة تبخر الماء، نتيجة لفقدان جميع مياه الأمطار بعد صرفها الفوري عقب هطولها.

المدينة الخضراء 

 وهنا يجب ترويج وتوسيع المناطق الخضراء في المدينة والقيام بزراعة وتخضير الأسطح (أسطح السقوف والواجهات والشوارع) مما يعزز التبريد بالتبخر ويقاوم تكون الجزر الحرارية. إن اتباع استراتيجية الاحتفاظ بمياه الأمطار في المدينة وعدم إهدارها بتصريفها عبر القنوات والمجاري، بواسطة إنشاء العديد من الحواضن التخزينية الصغيرة في الشوارع وعلى الأسطح يؤدي إلى تأخير وتقييد تصريف جزء من مياه الأمطار التي تهطل وفي نفس الوقت يزيد التبخر من خلال الزراعة (النتح) فيتم تحسين مناخ المدينة (انظر الشكل 3). وهذا لا يتم تنفيذه من خلال البحوث والدعوات والتثقيف فقط، بل يجب الدعوة وبشدة إلى تشريع منظومة قوانين تساهم بتغيير ممارسات البناء والتشييد وتخطيط المدن العراقية، وتكون هذه التشريعات ملزمة لكل المشاريع الحكومية وغير الحكومية.

ويجب أيضا تغير تدابير التكيف مع المناخ في المدن الكبيرة لتصبح عبارة عن مزيج، من الاحتفاظ وتخزين المياه وفتح الأماكن والأسطح المقفولة وفصلها وتيسير ترشيح وتسرب المياه إلى باطن الأرض والتبخر:

- الاحتفاظ والتخزين: يعتبر الاحتفاظ بمياه الأمطار بواسطة التخزين تحت الأرض وفوق الأرض إجراء شائعا في كثير من البلدان، لتقليل التدفقات القصوى للمياه. فيتم بناء أحواض ومرافق لحجز والاحتفاظ بمياه الأمطار التي تجمع بعد نهاية أنبوب او ساقية ومجرى. ومن أجل تخفيف تكون المسطحات المائية وتخفيف الحمل على أنظمة الصرف الصحي، يلزم بناء خزانات لامركزية في الموقع الذي تحدث فيه مياه الأمطار مباشرة، وبهذا يتم تقليل المخاطر أثناء ظروف الطقس القوية والمتطرفة.

- فتح الأماكن والاسطح المقفولة وفصلها: إضافة لذلك يجب التوجه لفتح المساحات المغلقة بالكامل أو فصلها باعتباره الحل المفضل، قبل خلق مرافق لتخزين مياه الأمطار. فمثلا يمكن ذلك من خلال استبدال الطرق التقليدية في رصف الساحات وأرصفة المشاة والأماكن وازقة الحارات وعدم ختم المساحات المحيطة بالمباني والمنشئات القائمة ومراعات ذلك عند التخطيط للمشاريع الجديدة، وبهذا يتم تقليل الجريان السطحي بسهولة وفعالية. (انظر الشكل 4)

- الترشيح والتسرب: إذا كانت ظروف التربة مناسبة، فيكون تسرب مياه الأمطار إلى داخل الارض شكل بسيط وموثوق للسيطرة على مياه الأمطار. فلعقود من الزمن استخدم البشر أحواض وخنادق الترشيح وبشكل خاص كجزء من تصريف المياه عن المنشئات. وبعد ذلك تم استخدام أنظمة شبكات الصرف، على سبيل المثال أنظمة الخنادق، لتصريف المياه السطحية في التربة ضعيفة النفاذية. ويمكن أيضا استخدام المصاطب النفاذية العميقة في مناطق الشوارع (انظر الشكل 4). ومن خلال التشكيل الذكي لسطح التربة، يمكن تحقيق قدر أكبر من الحماية من فيض المياه مقارنة بأساليب الصرف التقليدية.

- التبخر: ربما ان العنصر الأكثر شهرة لزيادة معدل التبخر في المناطق المبنية هي السقوف والأسطح الخضراء (انظر الشكل 5). ومن الممكن أيضا إضافة هياكل تخزين على أسطح مواقف السيارات التحت أرضية.

وتجدر الإشارة إلى أن عناصر الإدارة اللامركزية لمياه الأمطار المذكورة لا تؤثر فقط على عنصر واحد من عناصر التوازن المائي، فبالإضافة إلى تقليل الجريان السطحي، فإن الخنادق لا تعزز الترشح فحسب، بل تساعد ايضا في التبخر الجزئي. وأمثلة أخرى للتدابير ذات التأثير الإيجابي المتزايد على توازن المياه هي البرك (النافورات مثلا) ومناطق المياه المفتوحة والواجهات الخضراء.

وبالتالي فإن "المدينة الخضراء" تقدم حل لمشاكل الحرارة والفيضانات وفي نفس الوقت تدمج الزراعة في إدارة مياه الأمطار. وفي السنوات الماضية أصبح ترشيح المياه عنصرا أساسيا لدى المصممين والهيئات المسؤولة وقد حان الوقت لإدراج التبخر في مفاهيم إدارة المياه. ولكن للأسف نلاحظ في العراق، سياسة حكومية (بحجة الاستثمار) للقضاء على المساحات والمنتزهات الخضراء.

لترويج تطور النهج المذكور قامت دول العالم بسن قوانين ونظم لاتباعه، ففي المانيا تم وضع أوراق العمل DWA-A 138 و DWA-A 102 ويجري اتباع نهج شامل لإدارة مياه الأمطار في الولايات المتحدة الامريكية تحت اسم أفضل الممارسات الإدارية (BMP)وفي بريطانيا تحت اسم التنمية ذات التأثير المنخفض (LID) وفي الصين باسم الصرف الحضري المستدام (SUDs) - .و صاغ الاتحاد الأوروبي مشروعBlue Green Dream  (BGD)   بالإضافة إلى مصطلح "مدينة الإسفنج"، الذي روج مصطلح "المدينة الإسفنجية".

خاتمة

الهدف من المدينة الإسفنجية هو تخزين مياه الأمطار لأطول فترة بعد ان تهطل، وتمكين جزء كبير منها من التبخر عبر "العناصر الخضراء" مثل التجاويف وخنادق الأشجار والأسطح والواجهات الخضراء والترشح تحت الأرض، مما يؤدي إلى تقليل الجريان السطحي بشكل كبير. وهذا يؤدي إلى تخفيف تفاقم مشكلة الإجهاد الحراري في المدن الكبيرة. بالإضافة إلى معالجة هطول الأمطار الغزيرة التي تشكل تحديا لإدارة المياه في المناطق الحضرية. والمدينة الإسفنجية تحاكي دورة المياه في الطبيعة، مما يزيد من التبخر المحلي وبالتالي تعزيز زيادة التبريد بواسطة التبخر في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.

هدفنا هو أن يرى المسؤولون عن إدارة مياه الأمطار هذه المهمة ليس كمجرد "التخلص من مياه الأمطار" ولكن أكثر باعتبارها إدارة مياه الأمطار بشكل ذكي ومستدام في المناطق الحضرية. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من التوجه لفكرة الإدارة اللامركزية لمياه الأمطار ونشر الوعي بهذا الاتجاه. أحد الأمثلة العملية يظهر في المخطط على الشكل 4.

________________________________

*باحث واستاذ جامعي في البنى التحتية للمدن وخبير في الهندسة المدنية.