اخر الاخبار

شكل (1): مخطط لمراحل القمر للبيروني ، حوالي القرن العاشر /مكتبة ومتحف ومركز وثائق البرلمان الايراني

تحمل العواصم معتقدات  وايديولوجيات الإمبراطوريات التي صممتها. وكثيراً ما تقدم العواصم صورة مصغرة للكون الذي قصده الزعيم. فإذا أسأنا فهم المدينة، فإن المرء يخاطر بسوء فهم المشروع الإمبراطوري ككل. وقد نظرت الإمبراطوريات الإسلامية، مثل غيرها، إلى النجوم لإضفاء المعنى والغرض على عواصمها.

في عام 750 م، أطاحت الأسرة العباسية بالأمويين، وانتزعت السيطرة على الخلافة من الأسرة التي حكمتها لمدة قرن تقريبًا. كان العالم الإسلامي تحت سلطة جديدة. وإدراكًا منهم أن الأمويين المهزومين أسسوا دمشق كمركز لقوتهم، شرع العباسيون المتوجون حديثًا في بناء عاصمة جديدة. في عام 762 م، أسس المنصور - الخليفة الجديد للأراضي الممتدة من تونس إلى شمال الهند - بغداد، مدينة السلام. ولإنشاء عاصمة تُنقش عظمتها بين النجوم، لجأ إلى المنجمين المتمرسين في العلوم القديمة.

في الولايات المتحدة وأوروبا، كثيراً ما يُنبذ علم التنجيم باعتباره علماً زائفاً، بدلاً من الاعتراف به كمجال له تاريخ عميق وتطبيق واسع. ومع ذلك، فإن أهمية علم التنجيم بالنسبة للإمبراطوريات الإسلامية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث لا شك فيها. وبالتالي، فإن فهم هذا التقليد أمر ضروري لرسم خريطة المعتقدات والقرارات والدوافع في العالم الإسلامي.

إن استخدام علم التنجيم يكشف لنا عن رغبة هذه السلالات في صياغة شيء عالمي حقًا ويكشف عن الأساليب التي استخدمتها لنقش أيديولوجياتها على مدنها. إن بغداد والقاهرة وأحمد آباد كلها شواهد على الفضول الفكري الهائل للمسلمين في العصور الوسطى - قدرتهم على دمج افكار ومعتقدات ما قبل الإسلام في مجتمعهم الإسلامي المعاصر، والروعة التي استلهموا فيها تصاميم مدنهم من الفلك.

ولم يكن قرار نقل عاصمة الخلافة من دمشق قراراً سهلاً. فمثل الأمويين من قبلهم، اختار العباسيون نقل مركز القوة داخل الإمبراطورية. ولكن على النقيض من أسلافهم، اختار العباسيون بناء عاصمة جديدة بدلاً من الاستقرار في مدينة قائمة بالفعل. ورأى المنصور فرصة لإنشاء مدينة مصممة لغرض إعلان مجد الله للعالم ــ وبالتالي مجد العباسيين أنفسهم.

استقر في بلاد ما بين النهرين القديمة، واختار أرضًا بالقرب من قطسيفون (المدائن)، عاصمة إلامبراطوريتين  البارثية والساسانية الفارسيتين  لانشاء مدينته الجديدة. كان الموقع بمثابة إشارة للعالم ليس فقط إلى ميلاد إمبراطورية جديدة، بل إمبراطورية صُنعت من شظايا العصور القديمة.

ولضمان مجد العاصمة الجديدة، استعان المنصور بمساعدة المنجمين المتمرسين في علم النجوم المحترم: كان نوبخت وماشاء الله بن أثري يعملان على تحقيق رؤية خليفتهما. وكانت خطتهما للمدينة تكرس النية الإلهية. كان نوبخت من أصل فارسي، ويدعي أنه ينتمي إلى سلالات الإمبراطوريات الفارسية القديمة. وكان ماشاء الله من أصل يهودي فارسي. وكان كلاهما خبيراً في أسلوب علم التنجيم الذي روج له الكتاب الهلنستيون مثل بطليموس وفالنس ودوروثيوس الصيداوي.

لقد استخدم نوباخت وماشاء الله معًا فرعًا من العلم يُعرف باسم "علم التنجيم الانتخابي"، حيث "يختار" الممارس لحظة ميمونة، بناءً على وضع الكواكب، لبدء مسعى ما. وقد انجذب المسلمون في العصور الوسطى إلى هذا النمط من التنجيم بشدة، لدرجة أنهم حددوا العديد من أنشطتهم العادية - من قص الشعر إلى ممارسة الجنس - بناءً على التوقيت الفلكي. يحذر أحد النصوص المقروءة على نطاق واسع قراءه من تجنب مثل هذه الأنشطة عندما يكون القمر في برج العقرب. ويشهد ابن النديم، عالم الببليوغرافيا وبائع الكتب الشهير، على شعبية مثل هذه الكتيبات الإرشادية.

إن هذه الشعبية تؤكد القبول الواسع النطاق لهذا العلم القديم وغزارة الإنتاج التي حققها كتاب علم التنجيم خلال هذه الفترة، توضح مدى سهولة الوصول إلى علم التنجيم. فقد أخذت النصوص التي كتبها علماء التنجيم مثل أبو معشر ما كان ذات يوم حكراً على الطبقات الكهنوتية والنخبة في العالم اليوناني، وفتحت أسراره لطبقات أخرى متعلمة. وأصبح علم التنجيم، مثل أشكال التعلم الأخرى، أحد السبل التي تمكن بها المسلمون والمسيحيون واليهود في الإمبراطورية من تحسين مكانتهم الاجتماعية في مجتمع كان يقدّر التعلم.

لقد نشأ الدافع إلى دمج الماضي ما قبل الإسلامي في الحاضر الإسلامي مع تأسيس هذه العاصمة الجديدة. وكان تأسيس بغداد بمثابة بداية فترة من الانخراط العميق والناقد في الماضي بالنسبة للمجتمع العباسي. وسعى المفكرون والفلاسفة والعلماء المسلمون إلى الحفاظ على المعرفة القديمة وتوسيعها وإعادة التفكير فيها. وكان دمج الماضي والحاضر يعكس النسيج الاجتماعي التكاملي للمجتمع العباسي. وكان منجمو المنصور من الفرس واليهود، مما يعكس التنوع الثقافي والديني للإمبراطورية. ولم يتم تصميم المدينة الجديدة وفقًا لمنظور ديني محدد، بل وفقًا لعلم التنجيم ما قبل الإسلامي، وهو تقليد ولد في بلاد ما بين النهرين واندمج مع الخصائص المصرية من قبل المنجمين الهلنستيين في الإسكندرية.

لقد جعلت الأسرة العباسية من عاصمتها ــ ثم إمبراطوريتها ــ موقعا عالميا حقيقيا، موقعا يتجسد فيه الماضي ما قبل الإسلامي، ويحافظ عليه، ويتكامل فيه مكانياً وفكرياً. ونتيجة لهذا، أصبحت المدينة الجديدة موطناً للمسلمين واليهود والمسيحيين على حد سواء، حيث يعيش العرب والفرس والأفارقة واليونانيون جنباً إلى جنب.

إن تواريخ التأسيس يمكن أن تحدد مسار الثروة لشخص أو حدث أو مكان. وقد أخبرنا العلماء اللاحقون ياقوت (جغرافي من القرن الثالث عشر) والبيروني (عالم من القرن الحادي عشر) أن نوبخت وماشاء الله اختارا يوم 30 تموز 762 ميلادي باعتباره اللحظة الميمونة فلكياً لبدء العمل في العاصمة الجديدة. ويتجلى في هذه اللحظة من المخطط الفلكي  المشروع الإيديولوجي الذي كان المنصور يأمل في نقله إلى العالم: كانت الشمس في موطنها برج الأسد (lion)، وهو أحد الأبراج الملكية. وفي الوقت نفسه، كان كوكب المشترى، كوكب الثروة والعلم، يرتفع في الأفق في القوس (Sagittarius). وكان توقيت مثل هذه الأحداث يتطلب حسابات دقيقة وفهمًا متقدمًا لعلم الفلك الرصدي والهندسة المعقدة.  كانت هذه العملية المعقدة والإنجاز التقني بمثابة دليل غير مباشر على الثقافة الفكرية الرفيعة التي كانت تتمتع بها الخلافة العباسية. وكانت المدينة بمثابة إمبراطوريتهم الفكرية التي تجلت في العلن.

سواء كانت اللحظة المختارة مناسبة حقا أو لا : فقد كانت بمثابة وعد وإعلان لما ستكون عليه بغداد كعاصمة ـ ملكة المدن، ومكان للثروة والعلم المجيد. كما عكس تخطيط المدينة الطموح السماوي لمؤسسيها. فقد صُممت على هيئة سلسلة من الحلقات المتحدة المركز، تعكس السماوات المنظمة التي تخيلها علم الكون الإسلامي.

 وفي غضون جيل واحد، أصبحت بغداد مركز العالم الإسلامي، وقلب حياته الفكرية والثقافية والسياسية. وبنى أحفاد المنصور بيت الحكمة: مؤسسة ضخمة تشبه المكتبة مكرسة للحفاظ على المعرفة القديمة وترجمتها وتوسيعها. وهنا، عمل العلماء المسلمون والحكماء اليهود والكتبة المسيحيون على توسيع حدود المعرفة ــ من العلوم اليونانية إلى الطب الفارسي إلى الأرقام الهندية ــ تحت إشراف رعاتهم المسلمين. وعلى مدى خمسمائة عام، ظلت بغداد مركزاً للتعلم.

وعندما أسس الخليفة الفاطمي الرابع المعز عاصمة جديدة في شمال أفريقيا، لجأ هو أيضاً إلى المنجمين، سعياً إلى بناء مدينة تنافس بغداد. فمد المنجمون في بلاطه حبلاً ضخماً عليه أجراس ورفعوا أسطرلاباتهم إلى السماء، في انتظار اللحظة المثالية لدق الأجراس والإشارة إلى بدء حفر الأرض. ولكن للأسف، في اللحظة الأكثر سوءاً، هبط غراب على الحبل، فأطلق الإشارة قبل الأوان. وبينما بدأ العمال في الحفر، نظر المنجمون إلى الأعلى ـ في رعب ـ وأدركوا أن كوكب الحرب) المريخ (كان يشرق. فاندفع أحد المنجمين إلى الأمام، صائحاً: "القاهر، القاهر!" (القاهر، القاهر! ـ وهو اسم آخر للكوكب). ولكن الخليفة أخذ هذه الإشارة على محمل الجد وأطلق على المدينة اسم المريخ: القاهرة.

 شكل (3): برج تأسيس مدينة بغداد حسب البيانات التي قدمها ياقوت والبيروني استنادا الى هولدن (اعداد ALI A. OLOMI)

ولقد تبنى الخليفة المعز، الفاتح، اسم كوكب الفتح كاسم لعاصمته. وتدل هذه القصة، التي ربما تكون ملفقة، على أهمية العواصم في العالم الإسلامي، والطريقة التي استخدم بها مؤسسوها علم التنجيم كوسيلة لنقل أيديولوجيتهم. وليس من الواضح ما إذا كان كوكب المريخ قد ارتفع حقاً عند تأسيس القاهرة ـ ولكننا نعلم أن المعز وأتباعه أخذوا علم التنجيم على محمل الجد. وإذا كان المعز قد أنشأ عاصمة لمنافسة بغداد، فإنه كان ليعتمد هو أيضاً على الرمزية الفلكية.

وفي وقت لاحق، عندما أسست سلطنة غوجارات مدينة أحمد آباد، في ما يُعرف الآن بغرب الهند، استخدمت أيضًا الأبراج الفلكية لتحديد اللحظة المناسبة لتأسيسها، وذلك من أجل نقش رمزية السماء على عاصمتها. ويشير المؤرخ إتش جي شاستري إلى أن السجلات تحفظ تواريخ متنافسة لتأسيس المدينة، لكنها جميعًا تشهد على أهمية الأبراج الفلكية لبدء العمل.

ولعل التنافس بين التواريخ كان نتيجة لاعتماد المغول على المنجمين المسلمين والهندوس على حد سواء، حيث كان كل معسكر يستخدم تقسيمات رياضية مختلفة قليلاً للأبراج. ومع ذلك، فإن الوزن الممنوح لكلا التقليدين في علم التنجيم يشير إلى حقيقة أدراج المغول ــ مثل العباسيين من قبلهم ــ المعرفة التي سبقت الإسلام في مجتمعاتهم. والواقع أن علم التنجيم في الهند له جذور قديمة، سبقت المغول؛ وعلى هذا النحو، كان الخبراء الهندوس يتمتعون بمكانة إلى جانب المنجمين المسلمين. وكما كان الحال في الإمبراطوريات السابقة، كانت التقاليد المتنوعة في علم التنجيم موضع ترحيب في البلاط الإسلامي.

إن استخدام علم التنجيم في الماضي الإسلامي لما قبل الحداثة يشكل خيطاً فكرياً بالغ الأهمية من شأنه أن يساعدنا في تتبع علم الكونيات والسياسات المعقدة التي كانت سائدة عند السلالات الإسلامية الحاكمة. كما يخبرنا عن رغبات هذه السلالات الحاكمة في صياغة شيء عالمي حقاً. فعندما صممت الإمبراطوريات الإسلامية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث مدنها، لجأت إلى السماء طلباً للإلهام، فجلبت المعرفة القديمة التي كانت سائدة قبل الإسلام إلى مجتمعاتها الإسلامية، وبالتالي صممت شيئاً خالداً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:https://www.publicbooks.org/baghdad-medieval-muslim-astrology/

سارة إي بوند هي أستاذة مشاركة للتاريخ في جامعة أيوا ومديرة الدراسات الجامعية. وهي مهتمة بالتاريخ الروماني المتأخر، وعلم النقوش، وقانون العصور القديمة المتأخرة، والعلوم الإنسانية الرقمية، والتاريخ العام، والخبرة الاجتماعية والقانونية للشعوب الهامشية القديمة. نُشر كتابها، التجارة والمحرمات: المهنيون سيئو السمعة في البحر الأبيض المتوسط الروماني، في مطبعة جامعة ميشيغان في عام 2016.

ستيفاني وونغ كاتبة ومحررة وفنانة وطالبة دراسات عليا. ظهرت كتاباتها في صحيفة نيويورك تايمز ومجلة لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس. كمحررة مساهمة في Public Books.