ثورة تشرين الشبابية، ثورة سلمية بامتياز، هدفها إقامة دولة العدالة الاجتماعية، والسلم الأهلي، ولأنها كذلك حمل الثوار منذ لحظة انطلاقها، على صدورهم، شعار نريد وطن، كأمضى سلاح لمواجهة بطش السلطة وعنفها، وكان الأدب والفن أدوات التعبير عن ذلك الشعار، يسيران جنبا إلى جنب مع تحولات الثورة السياسية يوما بيوم، لا بل ساعة بساعة، كدليل قاطع على حضارة العراقيين وعراقة مدنيتهم.
ولو قيض لنا مقارنة ما أنجز على صعيد الثقافة، بين الوطن الصغير الأنموذج، الذي حرره الثوار في بغداد، والذي لا تزيد مساحته على أثنين ونصف أو ثلاثة كيلو متر مربع على أكثر تقدير، وإن شاء لنا رسم حدوده، فهي تبدأ من منتصف جسر الجمهورية غربا، انحدارا نحو ثغر الرصافة (ساحة التحرير)، ونفقها الذي يعانق شارع الجمهورية من جهة الباب الشرقي شمالا، وشارع السعدون من جهة ثانوية العقيدة وحي البتاويين جنوبا، يليها نصب الحرية الذي يظلل حديقة الأمة، وصولا لساحة الطيران شرقا، ومقتربات الأزقة والشوارع المحيطة بها، وبين بغداد العاصمة، بكل محافلها الثقافية، التي تتوزع على معالمها البارزة، من منتديات فخمة وجامعات ومعاهد واكاديميات فنية وكاليرات أهلية وحكومية متنوعة، لوجدنا أن ما أنتج من أدب وفن أصيل، خلال أشهر الثورة المعدودة، يفوق نتاج العاصمة على مدى أكثر من عقد ونصف. ولا عجب في ذلك، فمنذ أيامها الأولى عكف الشباب على إنشاء مجموعة من المكتبات، قسم منها في العراء الطلق، على مدرج نصب الحرية، مثل مكتبة الناشطة المدنية آسيا عادل، التي أفردت ركن المدرج بجانب قاعدة النصب من جهة الباب الشرقي، بعرض متر وطول مترين، لتجعل من سلالم المدرج رفوفا لكتبها المختارة، وقسم آخر نصب لها خيما، وتم عرض الكتب على بلاطها، مثل مكتبة الطالبين مختار عزيز وطه صالح، ومكتبة الطالب أنور محمد.
أما النشاطات الثقافية الأخرى فكانت تجري على قدم وساق، فقد خصص عدد من الخيم ليكون قاعات للمحاضرات والندوات والمؤتمرات الأدبية والفكرية والاجتماعية والعلمية والسياسية، في الوقت نفسة كانت هناك خيم لتقديم العروض المسرحية، وأخرى للعروض السينمائية، كما أن هناك قاعات للورش الفنية، لتعليم الرسم، للأطفال ولمختلف الفئات العمرية، والأجمل ما في تلك العروض والنشاطات انها أضحت محط إقبال الجميع بلا استثناء، أي كل الذين داخل سور الوطن المحرر، سواء الذين صنعوا الثورة والمدافعين عن حدود ها المحررة التي ذكرناها، او الجماهير التي دأبت يوميا، منذ طلوع الفجر إلى زيارة ساحة التحرير والمناطق المحيطة بها، وهذا التفاعل بين الجمهور والنشاطات الفنية، لم نشهد مثيله في المحافل الرسمية، إذ أن المدعوين سابقا كانوا محدودي العدد ويتم اختيارهم من النخبة، فيكون حضورهم لا لأجل إشباع الذوق الفني على الغالب، والتمتع بروائع الفن، بل لأجل تلبية دعوة رسمية، كشعائر بيروقراطية في تبادل الزيارات، أما تفاعل جماهير الثورة، كان أصيلا وحقيقيا، إذ يشعر المتلقي من جميع المستويات، أستاذ جامعي، موظف، عامل، شغيل، متسول، شيخ عشيرة، رجل دين، طالب، طفل أن ذلك الفن المعروض أمامه، نابع من بيئته، وعمل بأياد تمثله خير تمثيل، وأن هذا النتاج المبهر ولد من رحم الثورة التي جاءت من أجله، ولأول مرة تنشد جماهير غفيرة مع عروض فنية وأدبية بهذه السعة، اذ تحقق شعار الفن لأجل الفن، حيث أن كل فنان راح يعرض موهبته، ليس للشهرة أو لأغراض تجارية، بل حدث تماهي خلاق، بين الفنان والجمهور، وتحولت الموهبة إلى ملك الشعب ومن الشعب، كلاهما يتسامى مع الآخر، لأجل خلق مجتمع حضاري متطور، وأن أروع تفاعل بين الجمهور وبين الفن، هو ما جرى مع الأعمال الفنية المتنوعة، من جداريات ونصب، التي جسدها طلاب أكاديمية ومعهد الفنون الجميلة، على جانبي نفق التحرير، والتي تعد أروع جداريات، في تجسيد حيثيات الثورة، ومطالب الجماهير، بتوثيق فني لحقوق الانسان وارتباط عميق بحضارة وادي الرافدين، تلك الجداريات عكست ملحمة الثورة، وشكلت بانوراما عراقية خالدة، تضاهي نصب الحرية الذي يطل عليها من أروقة ومداخل النفق، كان عمل الطلاب دؤوبا وبشكل يومي، يستمدون الإلهام من شغف الجماهير المحلقة حولهم، انتظارا لولادة عمل استثنائي، من رحم الثورة الشبابية، لذا فإن الطلاب وخلال بضعة أشهر لا غير، حرقوا مراحل دراستهم الاكاديمية، اذ ما قلنا عبروها لسنوات، وبفعل الارتقاء لمستوى الحدث الثوري، خلقت آصرة متينه بين الجمهور وبين الأعمال الفنية، وهذا ما يفسر، كيف أن الجماهير ارتقت لشعارات الثورة، بين ليلة وضحاها، وتحققت العدالة الاجتماعية، هدف الثورة وقاعدة انطلاقها نحو التحرر والازدهار، والشواهد كثيرة على ذلك، منها التعاون الخلاق بين الشرائح والفئات الاجتماعية، إذ قام طلاب كليات الطب منذ اليوم الاول للثورة، بإقامة مراكز ومفارز طبية لمعالجة المرضى المصابين، كذلك اسعاف الجرحى وإرسالهم إلى المستشفيات إن تطلب ذلك، ولم يتوقف عملهم لهذا الحد، بل شكلوا فرقا لكلا الجنسين لإدامة النظافة في شوارع وأزقة المنطقة المحررة، فمنظر طالبات الطب بزيهن الأبيض، أصبح معتادا، وهن يزحن بالمعاول أكداس النفايات، ثم رفعها إلى الحاويات وإبعادها، وكأن هذا العمل فريضة وجزء متطلبات دروس الطب، ولا يمكن لأحد زار التحرير أن ينسى الهبة الإنسانية التي أبداها سائقو التكتك في التضحية وتحمل المخاطر، والتفاني لأجل إخلاء الجرحى من ساحة المواجهة بين المعتصمين والقوات الأمنية، ولا أحد لا يتذكر كيف يقف الجميع عند طابور توزيع الوجبة الغذائية دون تمييز، إذ لأول مرة يسري هذا العدل الاجتماعي، في وقوف طابور مكون من شرائح مختلفة وطبقات مختلفة، إذ وقف متسول أمام أكاديمي او موظف كبير او وجه اجتماعي او شيخ عشيرة دون حرج ولا شعور بالنقص، ولا أحد ينسى أبدا، أن الوطن الانموذج الصغير، لم يحدث داخله حالة تحرش، بالرغم من ان الاختلاط الجندري بين الجنسين فاق كل التصورات، واعتبره بعض الباحثين الاجتماعيين حالة لم تحدث سابقا في ظل الحكومات المتعاقبة، وهذا ما يدحض قول البعض، بأن التحرش وغيره من العادات الذميمة، طبائع متوارثة ليس من السهل محوها أو القضاء عليها، ونقول لهم، إن تلك الطبائع دخيلة على مجتمعنا العراقي، وما هي الا احتجاج وتذمر على وضعنا القائم على اللا عدل ، وتزول متى ما تحققت العدالة الاجتماعية، وما حدث داخل ساحات الاحتجاجات في ثورة الشباب خير دليل على ذلك.
إن هذا الارتقاء الذي أبدته الجماهير، لمستوى شعارات الثورة، لا يحدث إلا مع الثورات العظيمة، أمثال الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، شمس الحرية التي اشرقت على العالم، وثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى عام ١٩١٧، والثورة السلمية التي قادها غاندي في الهند، وأن الأدب والفن كانا الفاعل الأكثر تأثيرا على الحراك الجماهيري، جنب إلى جنب مع الحراك الثوري الذي قاده الشباب، وهذا دليل على أن شعبنا نهضوي، ليس متخلفا، بل وثابا ومتحفزا لكل ما هو حضاري، ومثلما انشد مع الأعمال الفنية الأصيلة، انشد مع الموسيقى وعروض البالية، فقد وقفت الجماهير منبهرة حول عرض بالية قدمته صبية من مدرسة الموسيقى والبالية، كان رقصها على بلاط الشارع، في نظر الرائي، كأنها بجعة تنزلق فوق صفحة بحيرة هادئة، وحين ختمت عرضها، أطال الجمهور التصفيق لفترة طويلة وغير مألوفة، كأنه يروم استمرارها في الرقص إلى حد الارتواء من فنها الجميل.
إن هذا العطاء السخي للأعمال التشكيلية والموسيقية، قابله عطاء للنتاجات الأدبية والثقافية، من شعر وقصة ورواية وغيرها من الأجناس الأدبية، وروايتي (زهر القرابين) واحدة من ثمار ذلك العطاء، كتب عنها نقاد كبار، أجمعوا على أنها مرجع ووثيقة تاريخية لثورة تشرين، ولا يسعني هنا سوى التحدث عنها باختصار في هذه المناسبة التاريخية التي نحتفل بها، فأقول إنها أجوبة لأسئلة ولدت من رحم ساحة التحرير، عاصمة الثورة ومركز الاحتجاجات، من هذه الاسئلة: لماذا هبت الجماهير عن بكرة أبيها لمساندة الثورة، مع أنها وقفت متفرجة في التظاهرات والاعتصامات السابقة التي رفعت نفس شعاراتها؟
لماذا لم تحقق الثورة هدفها على غرار انتفاضات الربيع العربي في مصر وتونس والسودان واليمن وغيرها، مع انها سجلت سابقة بين الثورات العراقية في وقت المطاولة وعدد الشهداء؟
لماذا ترك عدد من النازحات مخيمات النزوح، ولذن بمخيمات ساحة التحرير؟
وهناك اسئلة أخرى وأخرى عن ما هو مسكوت عنه…