اخر الاخبار

حين كنا صغارا اعتاد سكان بغداد، أيام الصيف، النوم على سطوح منازلهم، وكان البناؤون يراعون أسلوب الحياة هذا، فغالبية المنازل تحتوي على حجرة ملاصقة للسطح يسمونها “البيتونة”، وهذه هي محل لخزن الأغطية والفراش الصيفي وكذلك لحفظ ملابس الشتاء في موسم الصيف.

والأساس لهذا التقليد هو جودة ونوعية الهواء الطيبة التي تتوفر في بغداد أثناء فصل الصيف الخالي من الأمطار غالبا. وبعد سنوات طويلة في بلاد الغربة عدت لبيت والدي وكنت متلهفا للنوم على السطح، ضحك إخوتي: وقالوا لي لا تستطيع، فأصوات المولدات ورائحة الديزل المحروق تملأ الهواء. كان هذا عام 2004.

في الأسابيع الأخيرة تصاعدت الأصوات تشتكي من هيمنة رائحة كبريت كريهة على أجواء العاصمة بغداد وضواحيها وكما غطى دخان كثيف خانق مناطق شمال بغداد وصولا إلى شرقها، مما أثار قلق السكان من أسباب انبعاث الدخان بهذا الحجم وانتشاره في بغداد بجميع أنحائها.

وكالعادة وكما يقول المثل العربي: بعد أن “الفأس وقعت بالرأس” صرحت وزارة البيئة العراقية على لسان الوكيل الفني لوزير البيئة، أن سبب انتشار الروائح مؤخرا “ظواهر مناخية وطقسية نتيجة تعرض العراق إلى تيارات مختلفة بالإضافة لتغير اتجاه الرياح وارتفاع درجات الرطوبة”. وانتفض رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني فكون لجنة لدراسة “الظاهرة”. وفي نفس الوقت علق عراقيون آخرون: أن الرائحة ليست جديدة فعليا، إذ سبق أن تحسستها أنوف العراقيين في فترات متباعدة قبل سنوات وحتى قبل عقود.

إن مشكلة تلوث الهواء هي مشكلة تراكمية تراكمت منذ زمن طويل نتيجة الإهمال وقلة الوعي والسياسات غير الهادفة وغير المسؤولة. ولقد نبه كاتب هذا المقال في عدة مجالات إلى ضرورة اتخاذ السياسات الصحيحة من قبل الجهات ذات الشأن، فذكر بصدد سياسة النقل مثلا: “ وأيضا فإن سياسة النقل العادلة اجتماعيا تعني تمكين جميع الناس، بغض النظر عن الدخل والوضع الاجتماعي، من التمتع بجودة حياة عالية خالية من انبعاث غازات العوادم والضوضاء الضارة. وعلى وجه الخصوص، يجب أولا وقبل كل شيء تقليل النقاط والتقاطعات التي تسبب الانبعاثات نتيجة حركة المرور. إن أساس العمل من أجل نقل عادل اجتماعيا وفعال لا ينحصر فقط في القضاء على الآثار المباشرة للانبعاثات، ولكن عليه أيضا خلق بيئة صالحة للعيش (مناطق السكن). كما يعتبر تقليل انبعاثات الغازات الضارة وثاني أكسيد الكربون أمرا ضروريا للمجتمع ككل.”   وفي مجال الإسكان: “إن التعويل على البناء الجديد فقط بدون صيانة وإدامة وتأهيل الأبنية القديمة المتوفرة لحل ازمة السكن هو رهان خاسر. فإضافة لتخريب البنية الاجتماعية للمدن العراقية وما يعقبه من مشاكل اقتصادية يشكل ذلك تهديدا خطيرا للبيئة الطبيعة، فمن الواضح أن البناء الجديد وحده لا يساعد لكنه يدمر البيئة، فلإنتاج كميات الإسمنت الهائلة والخرسانة الضرورية للبناء الجديد يتم بث كميات هائلة من غاز ثاني اوكسيد الكاربون، فالإسمنت تتم صناعته من الجير عن طريق فصل ثاني أوكسيد الكاربون.”   وذكر” ولبناء المدن الجديدة يتم تغطية وغلق مساحات كبيرة إضافية من سطح التربة بواسطة الخرسانة والاسفلت للطرق وللمباني وبذلك يتم منع تسرب مياه الأمطار لتكوين المياه الجوفية والقضاء على الغطاء النباتي وسطح التربة المفتوح والدُبال الذي يصطاد ثاني أكسيد الكربون من الهواء، فيتم تخزين حوالي 1500 مليار طن من الكربون في التربة في جميع أنحاء العالم - أي ثلاثة أضعاف ما تمتصه جميع الغابات. فكل مبنى جديد يشكل انتهاكا بيئيا. وللتذكير: نحن بحاجة إلى التربة حتى يمكن جمع وتكوين المياه الجوفية وتخزين ثاني أكسيد الكربون.” وفي مجال الطاقة كتب: “ الهدف من التوافق البيئي هو التأكد من أن سياسة الطاقة تأخذ البيئة في الاعتبار وتتخذ تدابير وقائية فيما يتعلق بإمدادات الطاقة. ومن ضمن عوامل المخاطر البيئية ما يلي: انبعاثات الملوثات أو الغازات الدفيئة الناتجة عن استخراج واستخدام النفط الخام والغاز الطبيعي والوقود..” 

إن مدى جودة الهواء، يظهر من خلال مؤشر جودة الهواء، ويتم حسابه من التركيزات المقاسة لملوثات: منها ثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت والغبار الناعم (PM₁₀ وPM₂,₅) والأوزون، مع تحديد النتيجة الإجمالية الأكثر أهمية للصحة من بين التركيزات المقاسة. ومراقبة ذلك تتم بشكل مستمر، من خلال زرع حساسات مراقبة في المواقع المفتاحية في المدينة. للأسف لازال العراق متخلفا في هذا المجال ولا يمتلك سياسات ولا أنظمة إدارة للحفاظ على جودة البيئة ومنها جودة الهواء.

فاحتل العراق المرتبة السادسة الأسوأ في تقرير جودة الهواء العالمي لعام 2023 وفي تصنيفات المدن، وجاءت بغداد في المرتبة الخامسة الأسوأ في العالم. 

تعزى أسباب تلوث الهواء إلى ثلاثة أسباب أساسية، أولا: نشاطات الانسان مثل (توليد الطاقة، النقل، السكن، الصناعة...الخ)، ثانيا: نتيجة عمليات ونشاطات الطبيعة مثل (البراكين، المستنقعات التي تفرز غازات الميثان، العواصف الترابية...الخ)، وثالثا: نتيجة نشاطات بشرية تسبب في عمليات تلوث طبيعية (مثل التصحر، تغيير الجغرافية والطبوغرافية الطبيعية مثل إنشاء المستنقعات...الخ).

وكما أن النشاط البشري يغير ويؤثر على تغيير مكونات الهواء ويؤدي إلى تلوثه فيمكن للبشر أيضا من خلال إجراءات وسياسات صحيحة أن يحافظوا على نقاوة الهواء أو تحسين جودته.  وهنا تلعب المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني دورا أساسيا في ذلك.

ويشكل وضع قوانين واتباع سياسات واضحة في مجال النقل والمواصلات وفي مجال الإسكان والبناء وفي قطاع توفير واستخدام الطاقة أساسا حاسما في هذا الصدد.

وفي المجالات التي تستخدم المكائن والمحركات، مثل السيارات والمصانع وحتى الأدوات الكهربائية المنزلية يجب وضع معايير لكفاءة هذه المحركات. فالمحركات القديمة أو غير الكفؤة وخاصة للسيارات المستوردة من بلدان لا تراعي الجودة وتبث غازات ضارة في الهواء أكثر من توليد طاقة نافعة للحركة، وهذا ما نلاحظه في شوارع بغداد وبكثرة.

للأسف لم تتصد مؤسسات الدولة المعنية، مثل مجلس النواب والمؤسسات التنفيذية، لموضوع التلوث بالشكل المناسب، بل أن كثيرا من الإجراءات الحكومية أخذ يساهم في تعاظم المشكلة. ومن هذه الإجراءات التوجه الذي يثير التساؤلات ويجري باسم الاستثمار من استغلال الأراضي والمناطق الخضراء وإغلاقها وختمها بالخرسانة والاسفلت لتشييد “مساكن” لاهي بأثمان رخيصة للشعب ولاهي إضافة بيئية للمدن العراقية، أو الحملة الدعائية لبناء المجسرات باسم القضاء على الاختناقات المرورية والتي ستزيد من استعمال السيارات التي تبث مزيدا من الغازات المضرة وترفع من نسب تلوث الهواء. وتبقى أزمة تزويد الكهرباء والاعتماد على المولدات ذات محركات الاحتراق غير الكفوءة أحد أسباب التلوث الأساسية.

وبالضد من فشل واخفاقات المؤسسات الرسمية يقوم المجتمع المدني في العراق بمبادرات جيدة لتحسين الوضع، مثل حملات التشجير وتوسيع المناطق المزروعة والخضراء. ومن الضروري تشجيع وتعزيز هذه النشاطات، وهي تشكل أسلوبا مهما في رفض وعزل الفاسدين المهيمنين على مؤسسات الدولة.       

ويبقى الحل الجذري وهو اعتماد ووضع سياسات بيئية شاملة واضحة ومتوافقة في كافة المجالات. وعلى البرلمان أن يقوم بواجبه بتشريع القوانين المناسبة والمنسجمة مع حجم التحديات. فمثلا من الضروري تطوير القوانين التي تخص:

1 - تراخيص البناء فلا يسمح لأبنية تستهلك الطاقة بشكل مفرط، وفرض نسبة التشجير والمناطق الخضراء في كل مبنى.

2 - مشاريع النقل والطرق بحيث تكون هناك دراسة للجدوى والتأثير البيئي للمشروع، ويناقش أمام الجمهور بشكل شفاف.

3 - ترخيص المكائن والمحركات وخاصة ذات الاحتراق الداخلي، ومنع استعمال المحركات والمكائن غير الكفوءة والملوثة للبيئة.

4 - تشجيع وتحفيز استخدام وسائل توليد الطاقة المتجددة.

5 - معالجة النفايات ومعالجة مطامر النفايات غير النظامية داخل المدن وحولها.

6 - معالجة مياه المجاري والصرف بشكل نظامي وتقليل انبعاث الغازات منها.

7 - تشجيع وتحفيز مبادرات المجتمع المدني في المجالات البيئية بشكل خاص.

ويترتب على الجهات المعنية القيام بإجراءات عاجلة لتحسين البيئة والحد من الانبعاثات الملوثة وتحسين جودة الهواء لتعود بغداد ومدن العراق كما كانت مناطق لائقة بسكن المواطن.