ينتشر الغضب، اليوم وفي كل انحاء العراق تقريبا، كأسلوب رفض لأوضاع الحياة. ومن أجل إنقاذ الامن والسلم الاجتماعي وسيادة الاستقرار، يدعو الخبراء إلى ضرورة تحلي السياسيين والنخبة الوطنية بالحصافة ومراعاة مصالح وتفهم مشاعر المواطنين في سلوكهم السياسي.
فقد يؤدي تصاعد هذا الغضب المتزايد الى نمو قوى سياسية تتغذى عليه، سواء كانت الأحزاب اليمينية الشوفينية أو الدينية الطائفية المتطرفة، فجميعهم يتفشون بسبب عدم الرضا عن السياسات والعلاقات السائدة. وعندما تسأل عن الأمور التي نحتاج إلى تغييرها، تكون الإجابة الأولى في كل مكان تقريبا: استبدال الساسة والأحزاب الحالية بأشخاص أفضل.
ان الأسباب التي تجري مناقشتها كدافع للابتعاد عن الأحزاب القائمة ـ البطالة والتضخم والفساد وممارسات التغيير الديموغرافي، ضعف الخدمات والكهرباء، واهمال تأثيرات التغيير المناخي وانتشار التصحر، ونشر الفكر الطائفي وفرض العقيدة ذات اللون الواحدـ هذه كلها أسباب تدعوا للغضب، ولكن هناك خطر أخر كبير لا يقل أهمية وهو محو وتهديد الهوية والقيم الوطنية العراقية.
وهنا جاءت الهجمة التي تشنها القوى الهادفة لهدم الهوية والأخلاق العراقية من خلال المحاولة الحالية لتعديل قانون الأحوال الشخصية بشكل واتجاه يجهله المجتمع، ويبيح ممارسات غريبة عن القيم والأخلاق التي بناها العراقيون، مثل زواج القاصرات والأطفال والرضع، هذه الممارسات المرفوضة في قيم الشعب العراقي واعرافه. والبعيدة كل البعد عن مبادئ الاديان السمحاء التي يؤمن بها أبناء العراق بمختلف معتقداتهم.
وفي هذا السياق، يجب الإشارة الى ان سياسات وسلوك هذه القوى المتسلطة والمهيمنة على مصائر الشعب العراقي تحاول دفع غالبية جماهير الشعب الى صفوف «الخاسرين» في ظلال التقلبات والتغييرات التي تحدث تحت ستارة "الديموقراطية الكاذبة" فيقوم ممثلو هذه الأحزاب والحركات المتسلطة بسلب وتشويه مفاهيم الديموقراطية الحقيقية من كل محتوى يخدم المواطن العراقي، فهذه القوى المتسلطة حاليا، هي نفسها التي دفعت الكثير من العراقيين الغاضبين الى الظلمات وأصبحوا ضحايا الإرهاب والتطرف وجلبت الكوارث الى البلاد.
ان النقمة والغضب ليسا سلبيين بطبيعتهما، فلهما أيضا إمكانات وجوانب إيجابية، وهما مثل إشارات إنذار الشعور العاطفي، فيمكنهما لفت الانتباه إلى المظالم والظلمات، وهز مشاعر واحاسيس الناس، ويدفعان إلى أفعال كان من الممكن أن يفتقر المرء إلى الشجاعة للقيام بها. وكما ينطبق هذا على الحياة الشخصية ينطبق كذلك على المستوى المجتمعي: فالعديد من الحركات الاجتماعية دفعها الغضب الجماعي بسبب الظلم، مثل النضال من أجل نيل الحقوق المدنية والمساواة في الحقوق. ولولا الغضب، لم يكن من الممكن أبدا اقتحام سجن الباستيل في باريس وتحطيم الطغيان والظلم، ولولا الغضب لكانت أمريكا لاتزال مستعمرة بريطانية مستعبدة تابعة حتى يومنا هذا، ولولا الغضب لبقي شعب جنوب افريقيا يرزح تحت ظلم القهر والتمييز العنصري، ويمكن القول: فبدون الغضب لا يمكن أن يكون هناك تقدم.
ولكن ما هو نوع التقدم الذي يهدف إليه الغضب الموجه ضد الأحزاب المتسلطة حاليا؟ وما هي الفكرة الكامنة وراء الدعوة العامة للتغيير واستبدال "السياسيين المتسلطين بآخرين أفضل"؟
إن مجرد طرح هذه الأسئلة لن تؤدي إلى أي شيء مفيد. فعدم الرضا الحالي إذا لم يرتبط بتحقيق أهداف محددة، سيتحول في كثير من الأحيان الى ممارسة تتعلق "بمجرد الرفض كأسلوب حياة"، وربما لن يعطي هذا قدرا معينا من الأمن والاستقرار الداخلي في وقت يشوبه قدر كبير من عدم اليقين -رغم أن الأمر قد يبدو غريبا.
يرى رئيس معهد فيكتور فرانكل للأبحاث، أن عدم الرضا السياسي لا يمكن فهمه إلا من خلال رؤية آليات نفسية أعمق. وتشمل هذه انتشار الخوف بين افراد المجتمع من فقدان السيطرة على مسيرة التطور، فضلا عن الشعور المزعج بنقص المعنى والاهمية الذي يؤثر على كثير من الناس. يقول باتياني: "إن هذه القوى النفسية بالذات هي التي يتم استغلالها على وجه التحديد من قبل استراتيجيي الشبكات اليمينية المتطرفة" ونضيف هنا إمكانية استغلالها من قبل قوى إرهابية أو طائفية متطرفة تخلقها الأحزاب المتنفذة وتستخدمها لترسيخ تفكيك الهوية والمجتمع واثارة العدوانية بين مكوناته لتثبيت هيمنتها وترسيخ قوى السلطة الفاسدة.
ولا يبدو التشخيص غير قابل للتصديق. فيعد الخوف من فقدان السيطرة على سبل الوجود، أحد أقوى القوى النفسية على الإطلاق. فيمكن وصف تاريخ البشرية بأكمله بأنه كان محاولات للسيطرة على المخاطر الوجودية -قوى الطبيعة، الحروب، المرض، القحط ...الخ. ومن المفارقات الهامة أنه عند مواجهة التهديد، يُنظر إلى الخوف من فقدان السيطرة المحتمل على أنه أكثر تهديدا من الخطر نفسه.
وقد تم اثبات ذلك مختبريا من خلال تجربة الصدمة الكهربائية التي أجراها علماء نفس أمريكيون عام 2006: حيث تم منح الأشخاص الخاضعين للاختبار خيار تلقي صدمة كهربائية قوية على الفور أو تلقي صدمة ضعيفة في وقت غير محدد لاحقا في المستقبل. فاختار معظم الناس الألم الفوري: الأقوى، ولكن تحت السيطرة. لأن توقع الألم الذي لا تعرف متى سيأتي يعلق أثره بالدماغ أكثر من الألم الفعلي -وهذا ما تم إثباته الآن أيضا من خلال تحليلات نشاط الدماغ.
ومن الممكن تطبيق هذا المبدأ على السياسة الداخلية والعالمية: فانتظار كارثة حروب أهلية أو اقليمية وشيكة التي لا أحد يعرف ما إذا كانت ستحدث ومتى – وتأثيرات تغير المناخ الغير متوقعة، ومفاجئات الأزمات المالية والاقتصادية - تشغل الناس أكثر من مجرد محنة محسوسة عابرة بشكل ملموس، ففي الحالات الحادة، يمكن اتخاذ الإجراءات اللازمة والتعامل مع الضرر، ولكن من ناحية أخرى فالأزمة التي لم تحدث ويحتمل حدوثها تعمل على خلق شعور مستمر بعدم اليقين ــ وهذا على وجه التحديد ما تزايد بشكل هائل في الأعوام الأخيرة وتحاول القوى الحاكمة الفاسدة على ادامته. فنجد كثير من المواطنين لديهم شعور بأنهم يعيشون زمن غير واضح المعالم والنتائج. وهذا أمر متفجر سياسيا لأن الشعور بعدم اليقين يخلق حاجة ملحة لاستعادة السيطرة. ولكن الأحزاب الحاكمة في العراق أقصت وعزلت، من خلال إجراءاتها ومن خلال تنظيماتها المسلحة وغيرها، المواطن العراقي عن المساهمة باتخاذ القرار، فلا يستطيع الأفراد فعل أي شيء تجاه التطورات الداخلية والعالمية في السياسة والاقتصاد والمناخ وحتى تأثيرات الذكاء الاصطناعي. ولهذا أصبح الكثير من الناس يميلون إلى اتخاذ إجراءات رمزية تعيد إليهم الشعور بالسيطرة على نطاق صغير-ومن اكثرها خطورة هي خلق حواجز وفروقات بينهم وبين الاخرين "الغرباء".
وقد ثبت ذلك من خلال التجارب التي أجرتها عالمة النفس إيزابيلا أول هاديك من جامعة سالزبورغ. وفيها، واجه المشاركون في الاختبار تهديدا (على سبيل المثال، معلومات مروعة حول تغير المناخ)، ثم تم قياس مواقفهم تجاه الغرباء. النتيجة كانت: ان نظرتهم إلى المجموعات الأخرى تغيرت بشكل أكثر سلبية، في حين أن النظرة الى المجموعة الخاصة بالفرد أصبحت تميل إلى أن تكون أكثر إيجابية، وتوصلت دراسات أخرى إلى نتائج مماثلة: ففي تلك الدراسات، عندما واجه الأشخاص الخاضعون للاختبار مواقف غير آمنة، كانوا يميلون إلى استبعاد أو معاقبة أشخاص آخرين "غرباء" بشكل أكبر، حتى لو لم يكن لذلك تأثير على التهديد الفعلي.
لذا، نلاحظ منذ مجيء هذه القوى التي تسلطت على الحكم في العراق، توسع وانتشار ظاهرة رفض المجموعات (الأفكار، الطوائف، المذاهب) الاخرى وزيادة الكراهية ونظريات المؤامرة وخاصة في أوقات الأزمات، فالأمر يتعلق هنا أيضا بالرغبة في الحفاظ على السيطرة على عالم يهدد بالانزلاق. وهذا ما يفسر لماذا الخوف من فقدان السيطرة يصب في المقام الأول في مصالح الأحزاب الحاكمة والمتطرفة التي ترفض الاخر " المختلف فكريا او طائفيا اوعرقيا" وتهتم بإقامة حدود فاصلة لتعزل الاخر.
وهنا نجد الأحزاب القائمة تعمل على ترسيخ شعور المواطن بفقدان السيطرة بشكل مستمر ولا تقوم بتقديم معالجة حقيقية وفعالة لهذه المسألة في سياساتها وتنكرها، وغالبا ما تخلق الظروف لتأجيجها مثل نشر مجاميع مسلحة أو القيام بأحداث واعمال تثير عدم الاستقرار. ومن ضمن ما قامت به هذه القوى مؤخرا هو اثارة موضوع تغير قانون الأحوال الشخصية في البرلمان لتعزيز هذه المشاعر السلبية عند المواطنين وإبقاء المجتمع العراقي في هذه الدوامة لمنع تقدمه واستقراره. وإذا ترسخ الانطباع أيضا بأن الأمور التي يمكن السيطرة عليها فعليا بدأت تخرج عن نطاق السيطرة ـ على سبيل المثال، عندما تنهار شبكة الطاقة وتعم الفوضى في قطاع المال ومؤسسات الدولة ـ فإن الشعور بالأزمة ينتشر ويصبح موجودا في كل مكان.
يقول ألكسندر باتياني: "إن هذا يصب في مصلحة القوى المتطرفة التي تستغل هذه المخاوف بشكل واعي". كما أن الأحزاب الشعبوية الحاكمة التي تستخدم اللغة الطائفية والمذهبية، من شأنها أن تعمل أيضا على تغذية الخوف من فقدان السيطرة ــ على سبيل المثال من خلال ممارسة "التهجير الجماعي" أو "التغيير السكاني". و"كلما زاد عدم اليقين، ازدادت الرغبة في اللجوء لفعل شيء ما."
من وجهة نظر ألكسندر باتياني، فهناك ايضا آليات نفسية أخرى مسؤولة عن مثل هذه "الدوائر العاطفية القصيرة". وأهم هذه الأمور يتعلق بالحاجة إلى المعنى والهوية: أن تعرف إلى أين تنتمي، وما فائدة حياتك. ويقول باتياني إن هذا هو مصدر قلق إنساني أساسي. إذا لم يتم اشباعه، فسيشكل نقطة انطلاق مثالية لتأجيج المزاج الغاضب. لذلك تسعى الأحزاب والقوى الحاكمة المتسلطة في العراق على اضعاف الهوية الوطنية الجامعة ليس فقط في ممارسات الطقوس والاعياد الوطنية الرسمية بل تجاوز ذلك الى شؤون الأحوال الشخصية.
ويوضح أولهاديك: "إن نظرتنا للعالم وأعرافنا الاجتماعية، أي الاقتناع بما هو مناسب وما هو غير مناسب، كل هذا يمنحنا شعورا بالسيطرة". "إذا ركزنا أكثر على مثل هذه المعايير في مواجهة التهديد، فإن ذلك يساعدنا على التعامل بشكل أفضل مع مشاعر انعدام الأمن".
ولكن القوى الطائفية المتطرفة تحاول من خلال طرح تعديل قانون الأحوال الشخصية، هدم الحواجز والمعايير الأخلاقية التي تعارف عليها المجتمع العراقي في مجال العلاقة بمفهوم مؤسسة العائلة كنواة في البنية المجتمعية وبمفهوم حماية الطفل الذي يمثل الأساس لأجيال المستقبل. وهكذا يبيتون النية لتوجيه ضربة مؤذية للهوية الوطنية العراقية ويسعون بخبث لتفتيت المجتمع وخلق تخندقات فئوية تفرط بالنسيج المجتمعي وفي النهاية يهدفون لانحدار وتحطيم المجتمع وزعزعة امنه وتفتيته.
ويعتمد باتياني على دراسات أجراها عالم النفس آري كروجلانسكي من جامعة ميريلاند في الولايات المتحدة الأمريكية. فكتب كروجلانسكي أن دراساته تظهر باستمرار أن "الأشخاص الذين تتعرض حاجتهم إلى المعنى والهوية والأمن للتهديد هم أكثر عرضة لأن تكون لديهم آراء وسلوكيات متطرفة". ويبدو أن حكام العراق يريدون الكثير منهم هذه الأيام. فهم يحضرون الظروف لفقس بيضهم الطائفي والتحضير للانتخابات التي تستند على فكرهم الطائفي المقيت.
ويمكن للسياسيين الوطنين التعلم أيضا من كل هذه الآليات النفسية: فلا ينبغي لهم، على سبيل المثال، أن يتركوا لعبة العواطف لأولئك الذين يحتقرون الديمقراطية. فأنه من الأفضل مكافحة المخاوف المنتشرة ليس بالحجج الجافة، ولكن من خلال مخاطبة الناس على المستوى العاطفي ايضا.
يقول الخبير الاقتصادي السلوكي ستيفن هاك، لا ينبغي للسياسيين أن يرتكبوا خطأ التركيز بشكل حصري على المواضيع السلبية للخصم. بل من الأفضل مواجهة هذا بالمحتوى الإيجابي الخاص بك. ولا يجب الاكتفاء بالرؤى المتألقة وإثارة المشاعر، فمن المفيد جدا منح المواطنين الشعور بأنك تفهم حقا احتياجاتهم النفسية.