مرت أعياد الذكرى 89 لصحافة الحزب الشيوعي العراقي الغراء، فطفت إلى ذهني ذكريات عن إصدار صحيفة من قبل الشيوعيين العراقيين باللغة الالمانية، أود افشاء بعض الشذرات منها هنا.
في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، شهد العراق اشتداد الأجراءات القمعية والملاحقات ضد كل من لم يؤد الولاء "للقائد الضرورة" وشنت السلطة، التي كان صدام حسين يسعى لترأس قمة هرمها، حملات تسقيط واعتقالات واعدامات وتصفيات جسدية لكل من يعارضها، وشملت التصفيات والملاحقات جميع الطيف السياسي العراقي ولكن تم التركيز وبشكل خاص على أعضاء الحزب الشيوعي العراقي في محاولة للقضاء عليه أو احتوائه، كما وكثفت الديكتاتورية الصدامية القمع والملاحقات لقوى الشعب الكردي وازداد القهر حتى وصل مستوى التهجير والتغيير السكاني والإبادة الجماعية.
وبسبب سياسات النظام الديكتاتوري وقعت الكارثة الكبرى في تاريخ العراق باندلاع الحرب العراقية الإيرانية، واضطر المئات والآلاف من الشباب على ترك عوائلهم وأعمالهم ومصالحهم ومقاعد الدراسة بسبب هذه السياسة، في حينها سماها العالم "حرب الخليج الأولى"، وأطلقت عليها الديكتاتورية "قادسية صدام" وسماها ملالي إيران "الدفاع المقدس"، حرب نشبت بين الديكتاتورية في العراق وحكام إيران ولم يستطع، بالنتيجة، اي منهما تحقيق الانتصار، وكان الخاسران الوحيدان اللذان دفعا الثمن هما الشعبان الجاران العراقي والإيراني، خلَّفت الحرب حوالي مليون شهيد وسببت تخريب البنية الاجتماعية والقيمية، ودمرت الاقتصاد وأوقعت خسائر مالية بلغت اكثر من 400 مليار دولار أمريكي. دامت لثمانِ سنوات لتكون بذلك أطول نزاع عسكري في القرن العشرين وواحدة من أكثر الصراعات العسكرية دموية، كانت حربا طاحنة بمعنى الكلمة، وأثرت على المعادلات السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وكان لنتائجها بالغ الأثر في عوامل أدت إلى نزاعات وحروب لاحقة لاتزال تعصف بالمنطقة وفي داخل العراق.
دفعت هذه الأحداث الحزب الشيوعي العراقي إلى اتخاذ مختلف أشكال المعارضة والنضال ضد سياسة الديكتاتورية القمعية والحرب المدمرة، واهتم الحزب في الحفاظ على وحماية كوادره واعضائه ومناصريه من ملاحقات أجهزة الديكتاتورية قدر الامكان، من خلال المساعدة في توفير المأمن وتوفير شروط مواصلة الكفاح لهم، فمنهم من استمر في العمل داخل الوطن ولكن تحت ظروف قاسية جدا، فالتجأ كثيرون إلى ذرى جبال كردستان العراق واستطاعوا، بسبل بسيطة في البداية، توفير بعض الحماية لأنفسهم، وتطورت أعمالهم لاحقا إلى تشكيل تنظيمات الأنصار والكفاح المسلح، والتحق جزء آخر من الشيوعيين بتنظيمات الثورة الفلسطينية، كما وقامت بعض البلدان العربية بتوفير العمل لبعضهم وجزء أخر ذهب للدراسة والتحصيل العلمي في بلدان منظومة الدول الاشتراكية حينها، وخرج آخرون إلى بلدان أوربية وغير أوربية مختلفة. ومنها جمهورية المانيا الديموقراطية.
لقد عمد الشيوعيون دوما إلى تنظيم أنفسهم أينما وجدوا، لذلك شكلوا لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي العراقي، مختصرة "لتخ" وهذه اللجنة ترتبط باللجنة المركزية للحزب وتدير عمل منظمات الحزب في خارج الوطن، ومن إحدى منظمات الخارج كانت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في جمهورية المانيا الديموقراطية. التزمت المنظمة، كما باقي المنظمات، العمل السري ولكن كان لها رفاق مكشوفون بشكل منضبط ولهم صلات بالقوى والمنظمات الاجتماعية والسياسية في المانيا وأوربا.
وأصبحت منظمة الحزب الشيوعي في جمهورية المانيا الديموقراطية تشكل محورا مهما في عمل ونشاط المنظمات في أوربا وخاصة في الدول الأوربية الناطقة باللغة الألمانية، مثل برلين الغربية وجمهورية المانيا الاتحادية (الغربية) والنمسا وسويسرا وغيرها.
انخرطت منظمات الحزب الشيوعي العراقي في الخارج وبنشاط كثيف في فضح سياسة الديكتاتورية القمعية وفي حشد التضامن الشعبي العالمي مع نضال وقضية الشعب العراقي من أجل انهاء الديكتاتورية ولايقاف الحرب المدمرة بين الشعبين العراقي والايراني. فكان الشيوعيون وأصدقاوهم يستغلون كل المناسبات لطرح قضية الشعب العراقي، ويقودون الحوارات ويقيمون وينظمون الفعاليات والندوات ويشاركون في المهرجانات والمسيرات من أجل ذلك.
كانت الصحافة والمطبوعات تصل المنظمة ومن أهمها بيانات الحزب إضافة لصحيفته المركزية "طريق الشعب" ومجلة، كان غرضها الاساسي اخباري، اسمها "رسالة العراق" ويتم إعداد الحوارات التثقيفية ومحتوى الندوات والفعاليات يستند بالأساس على أساس توجيهات الحزب وأخباره والمواد المنشورة في هذه المطبوعات، ولكن هذه كانت تأتي باللغة العربية، ولمست منظمة الحزب ان هناك حاجة وطلبا متزايدا من الجمهور الناطق باللغة الألمانية، من قوى وحركات اجتماعية وسياسيين وإعلاميين واساتذة وطلبة جامعات وغيرهم، على متابعة أخبار العراق وتطورات الوضع فيه و الاطلاع على مواقف الحزب الشيوعي العراقي تجاه الأحداث الجارية حينها. في البداية كانت المنظمة تكلف بعض الرفاق لترجمة منشور أو بيان أو وثيقة محددة إلى اللغة الألمانية. ولكن ومع تطور الأحداث وازدياد كمية ونوعية تفاصيل الاخبار والوثائق، وللازدياد المضطرد لطلب الجمهور الناطق بالالمانية ولتوسع قاعدة ونوعية هذا الجمهور، قررت المنظمة عام 1983 تكوين لجنة حزبية صحفية لإصدار صحيفة حزبية ناطقة باللغة الألمانية، هدفها تحرير وإصدار وطباعة هذه الصحيفة، وتكون هذه اللجنة في اتصال مباشر مع مسؤول المنظمة وكان حينها، الرفيق المرحوم واثق الدليمي " أبو سعد". وتكونت اللجنة من كل من المرحوم الرفيق الدكتور زهدي الداوودي (وكان يعمل حينها محاضرا في جامعة كارل ماركس، حاليا تسمى جامعة لايبزك) وهو مختص في فلسفة التاريخ و كاتب وأديب ويمتلك خبرة في الصحافة الحزبية ومن الرفيق الدكتور محمد شطب (كان حينها لايزال طالب دكتوراه في قسم اللغات في جامعة فريدريش شيلر في مدينة ينا) ومن كاتب هذه الذكريات وكان حينها لايزال طالب دكتوراه في الهندسة جامعة درسدن للتكنولوجيا TU Dresden. وتقرر ان يكون رئيس اللجنة الرفيق زهدي الداوودي.
تمت تسمية هذه الصحيفة Der Kämpfende Irak وتعني "العراق المكافح" ولأسباب فنية وطباعية كانت تطبع بمقياس A4 حسب المعيار الدولي. ومن ورق المكاتب العادي بوزن 80 غرام للمتر المربع لانه كان المتيسر في ذلك الوقت، وكانت الطباعة بالأسود واحيانا بالازرق والابيض، أما الغلاف فكان ملونا ومن الورق اللماع.
احتوت منشورات الصحيفة على الوثائق والبيانات الصادرة عن اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، إضافة لأخبار الممارسات القمعية الديكتاتورية للنظام وفضح أساليبه في اضطهاد الشعب العراقي وانتهاكات حقوق الانسان والحريات السياسية، كما وكانت الصحيفة تغطي أخبار ومواقف ونضالات قوى الشعب العراقي المناهضة للحرب والديكتاتورية ونشاطات وبطولات حركة الأنصار الشيوعيين في كردستان، وتحتوي على تغطيات لمواقف ونشاطات المنظمات الجماهيرية العراقية في الخارج والمنظمات الدولية والعالمية المتضامنة والساندة للشعب العراقي في فضحها وتعريتها الوضع في العراق وأخبار الحرب المدمرة.
كانت الإرادة والحماس للقيام بهذا العمل الاعلامي الحزبي كبيرين، فتضافرت جهود أعضاء اللجنة لاخراج هذا المطبوع بافضل ما يكون، حسب الامكانيات البسيطة المتوفرة حينها، فلم تكن تكنولوجيا الكتابة والطباعة في ثمانينيات القرن العشرين متطورة كما هي عليه اليوم، ولم تكن أجهزة الكومبيوتر الشخصية متوفرة، وكانت الكتابة تتم على آلات الكتابة الميكانيكية، وحتى هذه الآلات لم تكن متوفرة في الأسواق للاشخاص العاديين، إذ أن حيازتها تتطلب رخصة من الجهات الرسمية، وهذه الرخصة لم تكن متوفرة لنا ( فصحيفتنا لم تكن تملك ترخيصا)، فقمت حينها بتدبير آلة كاتبة صغيرة من نوع اريكا Erika وهذه الآلة كانت تصنع في المدينة التي أدرس فيها، درسدن، ومن خلال علاقات شخصية بأحد العمال الألمان العاملين في المصنع تم ذلك، وتجاوزنا بذلك شروط الرخصة الرسمية. ولكن الآلة الكاتبة لا يمكنها عمل سوى عدد محدود من النسخ لايتجاوز الخمسة باستخدام ورق الكاربون، لذا توجب علينا البحث عن تقنية طباعة توفر عددا أكبر من النسخ. واستطعنا من خلال العلاقات الشخصية مع بعض العاملين المتعاطفين معنا في اقسام الطباعة في المؤسسات وخاصة الجامعات، التوصل إلى طباعة اكثر من 40 نسخة بواسطة تكنولوجية للاستنساخ تسمى الآلة الناسخة الكحولية باللغة الانكليزية Spirit duplicator، هذه النسخ كانت توزع داخل جمهورية المانيا الديموقراطية وبشكل شبه سري لأن الصحيفة لم تكن مرخصة من قبل الجهات الرسمية، اما بالنسبة للتوزيع في برلين الغربية وجمهورية المانيا الاتحادية والنمسا وسويسرا فكان أحد الرفاق يأخذ نسخة من الصحيفة ويعبر بها الحدود، ثم يعاد استنساخها في تلك البلدان.
مرة أوصلت نسخة إلى الرفيق معروف (ابو امانج)، وهو رفيق وصديق شخصي للعائلة ايضا، من أهالي كوي سنجق، كان عامل طباعة ماهر حاصل على تأهيل حرفي من المؤسسات الألمانية، وفي سبعينيات القرن الماضي كان يعمل في مطبعة الرواد في بغداد ويساهم في طباعة الفكر الجديد وطريق الشعب العلنية حينها، وكعادته، وهو شخص يسعى دائما لكمال الاشياء، قال لي هذه الطباعة يجب ان تتحسن، فشرحت له الصعوبات الموجودة، فقال لي انه يعرف زميلا المانيا يملك مطبعة صغيرة فيها تستخدم تقنية تنضيد الحروف من الرصاص المصهور. أخذت عنوان المطبعة وكانت في بلدة كرايشا من ضواحي درسدن واتفقت مع صاحب المطبعة على طباعة 200 نسخة من الصحيفة، وفعلا نجحنا بطباعة صحيفة بنوعية جيدة ولكن هذا لم يستمر فرفض صاحب المطبعة طباعة العدد التالي من الصحيفة واخبرنا ان الجهات الرسمية اتصلت به ومنعته من طباعة اي مادة بدون ترخيص منها، وهكذا عدنا إلى الاسلوب القديم في طباعة منشورنا. لم يكن العمل سهلا نتيجة للبيئة القانونية المعقدة حينها والإمكانيات التكنولوجية الضعيفة.
ونتيجة للتطورات التي حصلت في العالم وفي أوربا توقفت الصحيفة عن الصدور عام 1989، بعد ان قامت بمهمة كبيرة وهامة في ايصال وتوضيح قضايا الشعب العراقي والتوعية لحشد الجماهير الناطقة باللغة الالمانية للتضامن مع كفاح الشعب العراقي لانهاء الحرب والنظام الديكتاتوري.