اخر الاخبار

الثورة بمعناها العام، هي وسيلة من وسائل القضاء على النظام السياسي القائم عن طريق القوة، ويرافق هذه الوسيلة إحداث تغيير جذري في طبيعة النظام السياسي الجديد، لذلك لابد وأن يصاحبه ثورة اجتماعية تستهدف حياة الناس الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وتؤدي إلى تغيير الوضع الطبقي للمجتمع وتعديل شكل الدولة، كما تستهدف علاقات الانتاج القديمة لتحل محلها علاقات جديدة وتحدث تغييرا جذريا في الظروف الاجتماعية وفي مؤسسات المجتمع العقائدية وحياتهم الفكرية. وهناك ثمة عوامل ذاتية وموضوعية ساهمت فعلا في تفجير ثورة الرابع عشر من تموز مع تنامى واستعداد الحركة الوطنية الجماهيرية ذاتها على تنشيط المهام النضالية، وهذا ما حصل في اليوم التموزي حيث انبرت حركة الضباط الأحرار إلى المبادرة وتوجيه الضربة الأولى في ذلك الصباح المشرق والسيطرة على أبرز المواقع الحساسة في بغداد واعتقال مجموعة ممن يمكن ان يعلنوا المقاومة.

وما ان اعلنت اذاعة بغداد البيان الأول للثورة حتى كانت شوارع العاصمة بغداد وساحاتها وعموم العراق قد امتلأت بأبناء وبنات الشعب العراقي ثائرين ومساندين انتفاضة الجيش وانقلابه على الطغمة الفاسدة عملاء الاستعمار والرجعية معبرين عن طموحاتهم والأهداف التي يريدون تحقيقها. لقد تحول الشعب الثائر في سويعات قليلة إلى ثورة شعبية جذرية عارمة، اذ بدأت الثورة مباشرة وبسرعة بتنفيذ ما التزمت به من أهداف أساسية فكانت منجزاتها الثورية الأولى منجزات لا تتحقق إلا في اللحظات الثورية واستنادا إلى مزاج ثوري وشعبي شامل. وليس خافيا على المطلعين على تاريخ العراق الحديث ان الشعب العراقي بكافة انتماءاته القومية تمرس في النضال وتاريخه مليء بالدروس النضالية وقد قدم الكثير من التضحيات وحقق الانتصارات في أشرس معاركه ضد الحكومات المتغطرسة العميلة، وأن هذه التجارب النضالية تجعل الشعب العراقي  قادرا ومتمكنا من مواصلة النضال بلا هوادة لتحقيق أهدافه النبيلة وطموحاته  في الحياة الحرة الكريمة، وهذا  الصباح  الذي أصبح عيدا وطنيا شاملا  يحتفل به كافة ابناء الطيف العراقي كل عام لأنه  كان يوما يختلف عن باقي الأيام حيث انبثق نوره مع بزوغ الشمس.

لقد احتلت ثورة (14 من تموز) مكانة مهمة في التاريخ السياسي المعاصر بغض النظر عن مدى تطابق ذلك مع نظرتنا الفلسفية والفكرية، فهي واحدة من أهم معلمين من معالم العراق الحديث فاذا كان المعلم الاول متمثلا بتأسيس الدولة العراقية قد نقل العراق من المجتمع الزراعي المتشظي إلى المركزية الحديثة، فإن المعلم الثاني المتمحور حول تأسيس النظام الجمهوري في ذلك اليوم الأغر أرسى الأسس المادية لنهضة حضارية ومشروع حداثوي وضع العراق على سكتها بما يتلاءم وواقع التطور لقواه المنتجة آنذاك.

وفي كل عام وفي مثل هذه الايام التموزية ورغم حرارة الصيف اللاهب ونقص حاد في تجهيز التيار الكهربائي للمواطنين. يحتفل الشعب العراقي بكافة تلاوينه احتفالا حارا وكبيرا يليق بالحدث الجلل، ويقف أبناء هذا الشعب النبيل ليستعيدوا ذكريات نضالهم الشاق الطويل وتضحياتهم الجسام وانتصار الحق على الباطل، لقد كان الشعب قبل الثورة تحكمه شلة فاسدة من الشيوخ والاقطاع والمستغلين من عملاء الاستعمار والرجعية، تحتقر الانسان العراقي ولا تؤمن باي حق من حقوقه، ولا يهمها سوى استغلاله واذلاله وامتصاص دماء الأبرياء من أبنائه، وجني أكثر ما يمكن من الأرباح على حساب دمه وتعب السنين، وكان معظم أبناء الشعب من الفقراء يعيشون على الكفاف وفي أسوأ الظروف المادية ويخضعون لعملية ترويض عنيفة تستهدف حريتهم وكرامتهم  بالكامل وحقوقهم الأساسية، وكان أبناء الشعب غرباء في وطنهم فيما عدا الطبقة الحاكمة المرفهة، يعيشون ويعانون مختلف انواع القهر الاقتصادي والاجتماعي والفكري ويقاسون ذل الفاقة والحرمان والاستبداد وعليهم كل الواجبات وليست لهم حقوق يتمتعون بها، وأجهزة الدولة بكل مفاصلها ليست سوى أجهزة قمع واضطهاد وترهيب.

لقد سجل الأسلوب الذي مارسته الحكومة من قمع للانتفاضات العمالية والفلاحية في عموم البلاد انعطافا في سياسة الحكم في العراق اذ لم يعد يكفيها ما كانت تمارسه من أساليب دكتاتورية استبدادية تحت ستار نظام برلماني مزيف شوهت فيه جميع مفاهيم الحكم الدستوري الديمقراطي المقرر نظاما للحكم في العراق بعد أحداث ثورة العشرين، فأخذت تمارس الاستبداد السافر في ظل الأحكام العرفية وحالة الطوارئ وسياسة اصدار المراسيم، ومرد ذلك تصاعد الوعي الطبقي والوطني ونمو الحركة الوطنية المنظمة وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي والقوى الوطنية التقدمية،  وهو ما كانت تفتقر اليه حركة شعبنا في عهد الاحتلال والانتداب، فمستوى تطور وعي وتنظيم حركتنا الوطنية لم يعد يسمح بالتردد في النضال والمهادنة مع المحتل .

كانت البلاد خاضعة للاحتلال الاجنبي، والمحتل وجلاوزته يتصرفون ويقررون مصير الشعب ويفرضون عليه احكاما جائرة ويستغلون خيراته ويقيمون القواعد العسكرية متى ما يشاؤون وأين ما يريدون على أراضينا ويكبلون شعبنا بمختلف الأصفاد والقيود والأغلال والمعاهدات رغم إرادتنا.

وأمام كل هذه الظروف القاسية والتهميش كان الشعب العراقي يتحرك نحو كسر قيوده وينتفض كلما سنحت له الفرصة، مرات ومرات.. حتى جاء ذلك اليوم الموعود وإذا بالقيود تتكسر والأصفاد تتحطم وتتناثر. واذا بالصرح العتيد الذي بناه الاحتلال والرجعية على الظلم والجور يتهاوى تحت أقدام الجماهير الثائرة تاركا خلفه أسوأ الذكريات ومؤكدا حقيقة طالما اكدتها احداث التاريخ وهي ان لا حياة إلا للشعوب الثائرة المنتفضة التواقة إلى الحرية والأمان والعيش الرغيد ..وكان للحزب الشيوعي العراقي دور كبير في مجريات أحداث الثورة وعلى دراية تامة بموعد وانطلاق القطعات العسكرية للقيام بالحدث الأكبر، وبذلك عبأ كوادره وجماهيره حتى انطلقت الجماهير الغفيرة كالإعصار صبيحة هذا اليوم الاغر، من كافة الأعمار والفئات إلى الشوارع في بغداد والمحافظات  وتحولت إلى ثورة شعبية هائلة قضت على رموز النظام الملكي البائد والمحتل وأذلت الاقطاع وقصمت ظهر الاحتلال والرجعية.

ونحن نستعرض هذه الاحداث من ثورة (14) تموز نجد ان ما تحقق رغم جسامته لا يمكن ان يأخذ معناه الحقيقي الكامل الا إذا نجحنا في خلق الانسان المواطن الثوري الجديد جسميا وفكريا، وخلق مثل هذا الانسان لن يكون بالموعظة والارشاد وحسب وانما بتهيئة أكثر ما يمكن من ظروف مادية واقتصادية واجتماعية سليمة وأجواء فكرية ونفسية نقية تجعل هذا الانسان العراقي قادرا على فهم دوره وانتمائه في معترك الحياة الجديدة وإدراك مسؤولياته الضخمة والقيام بواجباته تجاه وطنه وشعبه.

وأخيرا، إن القرار الذي اتخذه البرلمان وصوت عليه بشطب الرابع عشر من تموز من قانون العطل الرسمية هو هجمة دنيئة شرسة تضافرت عليه القوى الرجعية وأيتام النظام البائد، ونجد من يحاول في مناسبة وأخرى النيل من أعظم ثورة حققها العراقيون في تاريخهم الحديث وهي ثورة الرابع عشر من تموز مع الجماهير المنتفضة من خلال الطعن بأحداثها ورجالاتها من جهة، وبتمجيد النظام الملكي العميل وأزلامه وتنزيههم من جهة أحرى.

إن يوم الرابع عشر من تموز محتسبا عيدا وطنيا بكل المقاييس يحتفل به أبناء الشعب من أقصاه إلى أقصاه بكافة انتماءاتهم العرقية والقومية، وإن الغاءه قرار مجحف بحق الثورة وتاريخ الشعب العراقي، وحقيقة ثورة الرابع عشر من تموز ستبقى، والاحتفال بذكراها واجب وطني مقدس ودين كبير في الأعناق وأنشودة يتغنى بها الشعب العراقي كل عام.

عرض مقالات: