اخر الاخبار

هذا المقال قراءة كتاب ماتيو باسكينيلي (عين السيد : التأريخ الاجتماعي للذكاء الاصطناعي) وهو استاذ مساعد في فلسلفة العلوم في جامعة كا فوسكاري في مدينة فينيسيا.

قبل ان نشعر بالذعر بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي يتعين علينا ان نرجع إلى الوراء وننظر إلى مصدره وماهي الوظيفة الاجتماعية التي يخدمها وكيف ينسجم مع الرأسمالية المتأخرة ويدمجنا بها. إن التأريخ التفصيلي والتحليل المفاهيمي السياسي في هذا الكتاب الجديد بقلم ماتيو باسكينيلي يفي بالغرض، إنها نقطة بداية لا غنى عنها للتفكير في كيفية استخدامنا للذكاء الصطناعي بما في ذلك chat GPT، بدلا من السماح له باستغلالنا.

هنالك ثروة من التحليلات في هذا الكتاب، تأريخ يمتد من التطور المبكر للكمبيوتر، فقبل ان تكون «أجهزة الكمبيوتر «آلات كان الكمبيوتر عبارة عن بشر (نساء تحديدا) يجلسون على طاولات ويجرون العمليات الحسابية بجهد شاق لفروع مثل علم الفلك والحرب وسباق الفضاء وكانت تلك مهمة النساء بشكل كبير. ثم فترة (التعرف على الأنماط: وهي طريقة تصنيف الكمبيوتر للبيانات حسب الفئات المختلفة) ثم الذكاء الاصطناعي المعاصر، والاستخدام الأيديولوجي للبحث في (الشبكات العصبونية: وهي طريقة من الذكاء الاصطناعي تعلم الكمبيوتر معالجة البيانات بطريقة مستوحاة من الدماغ البشري)، والتي تصور العلاقات الاجتماعية الحالية في وصف لكيفية عملها، هذا الكتاب يثير عددا من الأسئلة الحاسمة حول كيفية تفكيرنا في دور التكنلوجيا بشكل عام.

التكنولوجيا والابداع والتغيير

عين السيد هي التسمية التي أطلقها الكاتب على أشكال المراقبة والتنظيم الضرورية لتطور الرأسمالية، كما وصفها ماركس في كتابه (رأس المال) (قوة السيد) وهي ليست فردا معينا يراقب الأشياء ويحرك الخيوط خلف الكواليس، « عين السيد « هي المراقبة المتزايدة لكل جانب من جوانب عملية العمل (وانماط اختيار المستهلك) وهي عملية تشمل بالطبع تحريض كل موضوع على تقديم نفسه عن طيب خاطر.

يعتقد الكاتب أن الذكاء الاصطناعي ليس كما يوصف بأنه ظاهرة ذكاء خارق للطبيعة بل شيء أكثر تفاهة من ذلك بكثير. اختراع “مصطنع” تماما يدمج أنواعا معينة من العلاقات الاجتماعية الاستغلالية والقمعية في المجتمع وفي الطريقة التي نفكر بها في أنفسنا.

الذكاء الاصطناعي هو «عين السيد « لأنه يراكم «المنطق السائد « الايدلوجي للفئات المسيطرة من المجتمع وينفذه كما لو كان الحقيقة الوحيدة، بل كما لو لم يكن هنالك بديل. ويوضح باسكينيلي الأمر بهذه الطريقة. « إن الشفرة الداخلية للذكاء الاصطناعي لا تتكون من تقليد للذكاء البايلوجي بل من ذكاء علاقات العمل والعلاقات الاجتماعية (علاقات الانتاج).

يقدم لنا الكتاب تأريخا للتكنولوجيا في ظل الرأسمالية، مؤكدا مرارا وتكرارا على براعة البشر وابداعهم والطريقة التي يتم بها خيانة البراعة والابداع عبر استيعابها وتحييدها ووضعها في خدمة عملية تراكم رأس المال، هذا التحليل هو عمل من داخل نوع معين من الماركسية يأخذ بنظر الاعتبار الابداع البشري كمبدأ اساسي للتحليل (الممارسة الانسانية تعبر عن منطقها الخاص، قوة الابداع والتخمين قبل ان يستحوذ عليها العلم التكنلوجي وتغترب عن الانسان).

هذه نقطة بداية مختلفة إلى حد ما عن المنهج الكلاسيكي لفهم ماركس الذي يعتبره الكثيرين منا كيساريين أمرا مفروغا منه، ولذا فأننا ننجرف إلى نقاش مفاهيمي نفكر من خلالها في التطور التاريخي وامكانيات التغيير، هذا المنهج الكلاسيكي يصر على ان عمليات تطوير التكنلوجيا تخلق وتؤدي لنشوء انواع معينة من العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقات الاجتماعية التقدمية التي تشكل اساس نضال الطبقة العاملة ضد الرأسمالية ومن ثم تقوم الطبقة العاملة بالإطاحة بها، فالرأسمالية تخلق حفار قبرها.

يأتي هذا الكتاب من قراءة بديلة لماركس وهي قراءة مرتبطة بالماركسية الايطالية المستقلة حيث يأتي إبداع العمال في المقام الاول وتتغذى الرأسمالية على ذلك وتشوهه. ان الثورة بهذه الطريقة في التفكير ، هي استعادة الامكانات الجماعية التي كانت موجودة دائما بالفعل ، لذا يدعو الكتاب إلى تحليل كيفية سرقة هذا الابداع وتحوليه ضدنا ، يكتب باسكينيلي عن « المعرفة الجماعية والعمل  باعتبارهما المصدر الرئيسي للذكاء ذاته والذي يأتي الذكاء الصطناعي لاستخراجه وترميزه وتحويله إلى سلعة» ربما كان على حق ، يقدم الكاتب حجه مقنعة لهذا التفسير للماركسية ، بهذه الطريقة يناقش باسكينيلي ما يسميه «نظرية عمل الذكاء الآلي « اي ان النظرية التي توضح لنا ان العمل غير قابل للالغاء وان تنظيم قوة العمل وحده هو الذي يمنحنا مخرجا.

المعرفة والسيطرة

هل هذا النوع من المعرفة الذي نستعرضه الآن هو في الواقع نوع من «سيد»؟ نعم بمعنى ماركس تحدث عن آليات الهيمنة التي نواجهها كعمال في ظل الرأسمالية، وآلية الهيمنة هذه تقدم نفسها لنا وكأنها منفتحة وشفافة. لندخل بوابة CHAT GPT على سبيل المثال وسيخبرك ان هذا مكان مفتوح للذكاء الصناعي (بينما يدعوك ايضا لكتابة شيء عن القطط الصغيرة وهي واحدة من عدد من المهام المفيدة التي لم تكن تعلم أنك بحاجة ليها). ما هو مخفي على مرأى من الجميع هنا هو ان هذا «السيد منتشر ، وهو عبارة عن شبكة من اشكال السيطرة ،وهي شبكة تجعلنا نراقب بعضنا البعض ونراقب انفسنا « .

يعتمد باسكينيلي على مجموعة من المواد النظرية لتقديم حجته، وهي تشمل الماركسية الكلاسيكية والماركسية الايطالية وعمل المؤرخ ميشيل فوكو (الذي كتب كثيرا عن اشكال المراقبة والسلطة في المجتمع الحديث) وجيل دولوز (صديق فوكو) الذي كتب حاشية عن مجتمعات السيطرة وهو نص قصير مكثف يذكرنا باسكينيلي بأنه «أعلن ان السلطة لم تعد معنية بأنضباط الأفراد بل بالسيطرة على الأفراد، اي بأجزاء من كيان ما. جسد ممتد ومفكك، هؤلاء الأفراد هم نسخ موضوعية عن أنفسنا، أقل حتى من « الأفراد» الذين قيل لنا إننا يجب ان نكون في الرأسمالية الليبرالية، لقد انقسمنا وأصبحنا أقل من بشر ومجتمع السيطرة، هذا هو أساس أداء «رأسمالية المنصة» التي تزدهر فيها الإصدارات الحالية من الذكاء الاصطناعي.

العمل والعمال

أحد الأمور المخيفة بخصوص استخدامات الذكاء الصناعي هو مراقبة الموظفين وتنظيم عملهم (ونحن بحاجة إلى مراقبة أولئك الذين يراقبوننا) ويذهب باسكينيلي في هذه الحجة إلى ابعد من ذلك، فيشير إلى الآمال والمخاوف القديمة والتي لاتزال تتكرر بشأن الذكاء الاصطناعي تعود إلى تجاربنا الأولى مع “الذكاء الاصطناعي وأسلافه في القرن التاسع عشر “وفقا لهذه القصة لن تكون هنالك حاجة للعمال، وستقوم طبقة محترفة من المفكرين الخبراء بتوجيه التكنلوجيا وقد ثبت ان هذا ليس صحيحا تماما، وهو باطل لسببين.

اولا: هذه التكنلوجيا الجديدة لا تستغني على الاطلاق عن العمال، لكنها تطلب منهم العمل بشكل أكثر كثافة ولساعات طوال لخدمة الآلات والذكاء الاصطناعي، وكما يقول باسكينيلي «إن رأسمالية المنصات هي شكل من أشكال الاتمتة التي في الواقع لا تحل محل العمال بل تضاعف جهدهم وتحكمهم من جديد». ان الخوادم والعديد من أجهزة الذكاء الاصطناعي، يخدمها جيش عمالي جديد يتكون في الغالب من عمال غير مرئيين فهنالك الآن جيش من العمال الاشباح في الجنوب العالمي.

إن هؤلاء النساء والعمال المهاجرين ذوي الاجور المنخفضة وأولئك الذين يعملون في مواقع خارجية يغذون الوهم بأن «السحابة « غير مادية، كما لو أنها مكان سري غامض تطفو فيه البيانات مما يكمل الوهم بأن الخدمات المصرفية والاستثمارية عبر الانترنيت تزيد الأرباح بطريقة غريبة لايمكن تفسيرها بدلا من ادارة وإحصاء العمل الحي، عند هذه النقطة يصرخ التحليل من أجل احتساب انتاج العمل الاجتماعي.

ثانيا : الجانب الاخر من هذا الأمل الفاشل والوعد الكاذب بأن الذكاء الصطناعي سيحل محل ما اطلق عليه ذات مرة (جيمس بورنهام بالطبقة الإدارية والتي يتحول فيها مركز الثقل في المؤسسات من المالك إلى المدير المحترف ) او مايعرف ب CEO وهو المدير التنفيذي المسؤول عن نشاط المؤسسات ويطلق عليه المفكر الفرنسي جان كلود ميلنير « الرأسمالية الاجيرة» ، وبالتالي لا توجد أتمتة للعمل ولكن العمل يجب تنفيذه في ظل ظروف المراقبة المكثفة والقدرة على التوافق مع احتياجات التكنلوجيا الآلية ، وهكذا كما يقول باسكينيلي هنالك «أتمتة الإدارة « والخوارزميات التي تستبدل الإدارة ومضاعفة الوظائف غير المستقرة.

استنتاجات غير ذكية

قدم أحد المرشحين الرسميين لحزب Monster Raving Loony Party (يصنف من الاحزاب التافهة والتي يتم انشاؤها لأغراض الترفيه والسخرية السياسية) في الانتخابات الفرعية في روتشديل \ بريطانيا وعدا في برنامجه بتحويل «الذكاء الاصطناعي « إلى «صناعة الذكاء». لايمكننا ان نتمنى زوال هذا التطور التكنلوجي بل نحتاج بدلا من ذلك إلى معالجة كيفية تحويل العلاقات الاجتماعية (علاقات الاستغلال الرأسمالية) التي تعيد انتاج وتعزيز نفسها حتى نتمكن من تحويل التكنلوجيا من أداة للسيطرة إلى وسيلة لتحررنا.

اليكم الانحراف في القصة، وهو الأمر الذي ينبغي ان يلهم الأمل والثقة في قدرتنا على استخدام هذه التكنلوجيا بشكل جيد، يذكرنا باسكينيلي بأن «التطور الاكثر حماسة للأتمتة أظهر مدى الذكاء الذي يتم عبر محاكاة الأنشطة للوظائف التي تعتبر عادة يدوية ولا تتطلب مهارات « لذلك فنحن لسنا بهذا الغباء عندما نفشل في أداء وظائفنا كأنظمة التصرف على الأنماط البسيطة.

عندما يطلب منا موقع ويب اختيار أجزاء من الصورة التي تحتوي إشارة مرور للتأكد من اننا بشر يتبين أن الدليل ليس اختيار المربعات ووضع علامة على المربعات الصحيحة التي تحتوي على علامة مرور لكن حركتنا المتعثرة للمؤشر هي التي تميزنا عن الذكاء الصناعي ذي الكفاءة الكاملة والذي يقوم بذلك بسرعة وسلاسة، بعض الاشياء يجب ان نقوم بها بهذه الطريقة.

احدى الرسائل التي يمكن اخذها في الاعتبار من هذا الكتاب هي ان التنمية لاتقودها التكنلوجيا ، وهذه الرسالة موجودة بالفعل عند ماركس ، وان محرك التنمية الاساسي هو «قوى الانتاج» ، وان علاقات الانتاج»الرأسمالية» يبلورها الذكاء الصناعي كعلاقات قوة غريبة . ويجعل الأمر يبدو كما لو ان هنالك بالفعل سيد يراقبنا. كل هذا يعني ان البديل كما هو الحال دائما في السياسات الثورية المناهضة للرأسمالية هو نشاط جماعي واع بذاته يتجاوز صيغ التعرف على الانماط للذكاء الصناعي ويواجه الطريقة التي يتم استخدامه بها حاليا.

كتاب مفيد للغاية يحمل الأمل في السيطرة على الالات والتكنلوجيا المستخدمة للسيطرة علينا، مع امثلة على التنظيم الذاتي من داخل التقاليد الايطالية، وكما يجادل باسكينيلي في نهاية الكتاب يجب ان نتعلم «الذكاء الجماعي المضاد».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* السيد: عند هيجل تكون العلاقة جدلية بين السيد والعبد حيث ينشأ صراع يسعى فيه السيد لتحقيق استقلاله من خلال تدمير استقلال العبد او تتم السيطرة عليه، ولا يتحدث هيجل عن شخصين بعينهما ولا عن فردين فعليين، بل يتحدث عن نوعين من الوعي الذاتي وعي السيد مقابل وعي العبد.

المصدر: من موقع anticapitalistresistance.org

عرض مقالات: