اخر الاخبار

في تسعينيات القرن الماضي، عندما قام صدام حسين بتجفيف أهوار بلاد ما بين النهرين لمحاربة معارضي نظامه الذين كانوا يختبئون هناك، قام الصياد مهدي مطير، بجمع شباكه وقاربه الصغير ليحتمي في هور الحمار، المنطقة التي نجت من هذه العملية. هذه الأراضي الرطبة والواسعة من جنوب شرق العراق هي جزء من أهوار بلاد ما بين النهرين، التي تعتمد على نهري دجلة والفرات.

منذ آلاف السنين، ارتبطت حياة الناس في هذه المناطق ارتباطا وثيقا بهذين النهرين وبالأراضي التي تغمرها الفيضانات الموسمية. وقد سمحت المياه والقنوات العديدة للناس بالزراعة، وصيد الأسماك، ونقل البضائع، والتنقل من منطقة إلى أخرى في تلاؤم مع بيئتهم.

وعاش مطير، هو أيضا، في هذا التوازن. كان يحمل كل يوم شباكه في المشحوف، وهو الزورق الخشبي الطويل والضيق الذي تشتهر به المنطقة، ويذهب عند غروب الشمس يلقيها في الترع والقنوات. وفي اليوم التالي، عند بزوغ ضوء الفجر يقوم برفعها وهي محملة بالأسماك. وكان يتمكن من كسب حوالي ١٧ ألف دينار يوميا، أي حوالي ثلاثة يورو، وهو مبلغ زهيد لكنه يسمح له بتلبية احتياجات الأسرة الاساسية.

ومنذ بداية عام ٢٠٢٢، انقلبت حياة مطير رأسا على عقب. فلم يعد الماء يتدفق وتحول قاع الهور بسبب الجفاف إلى أوحال أين كان يترك قاربه.“انه بسبب شركة إيطالية... شركة ايطالية “كان يكرر مشيرا إلى محطة قيد الإنشاء على بعد بضع كيلومترات لتجميع ومعالجة المياه.“لقد سرقوا مياهنا!” هكذا كان يتوجه سيرا على الاقدام نحو المكان الذي يسميه “المصنع” والذي يعتبره مسؤولا عن الجفاف الذي يمنعه عن ممارسة مهنته كصياد.

شركة النفط الايطالية

بعد اجتياز نقطة للتفتيش، يظهر موقع بناء محاط بجدار خرساني ونقاط مراقبة في زواياه الاربعة. ويرفرف عند المدخل علم اصفر مرسوم عليه كلب ذو ستة أرجل، رمز شركة النفط الايطالية إيني. في المقابل، وعلى طول ضفة قناة موجودة هناك، تم بناء سد لتحويل المياه إلى خزان تم تشيده حديثا. وهذا السد بالتحديد هو الذي يمنع التدفق الطبيعي للمياه نحو الاهوار.“المصنع لم يبدأ تشغيله بعد“يوضح مطير.“لكنهم يخططون لاستخدام هذه المياه لاستخراج النفط“

ويعد السد ومحطة الضخ جزءا من مشروع تقوم به شركة إيني ووسيطها المحلي، الشركة العامة العراقية لتنفيذ مشاريع الري، لغرض تجميع الموارد المائية اللازمة لاستخراج النفط في حقل الزبير ويعد هذا الحقل واحدا من أكبر الحقول في البلاد وتديره الشركة الايطالية الكبرى منذ عام ٢٠٠٩.

وكما هو معروف، فعند استغلال الحقل، ومع مرور الزمن، ينخفض ضغطه الداخلي. وعندما يصبح هذا الضغط غير كافي، يجب زيادته بشكل اصطناعي لكي يكون من الممكن الاستمرار في استخراج النفط منه. ويعتبر حقن الماء أحد التقنيات الكلاسيكية التي تستخدمه الشركات لهذا الغرض. ومن هنا جاء مشروع إيني في المنطقة.

لقد أصبح هذا المشروع أكثر ربحية حيث أدت مرحلة ما بعد جائحة كرونة والحرب في أوكرانيا إلى دفع أسعار النفط الخام إلى آفاق جديدة. غير ان العراق ليس فقط خامس أكبر دولة في العالم من حيث حجم احتياطياته النفطية والذي يعمل باستمرار على زيادة إنتاجه، فهو ايضا، ووفقا للأمم المتحدة، خامس أكثر دول العالم عرضة لتأثيرات أزمة المناخ والمياه.

ولقد أدى ارتفاع درجات الحرارة وعدم انتظام هطول الأمطار وبناء السدود في تركيا وإيران وإهدار موارد الري إلى انخفاض حاد في منسوب مياه نهري دجلة والفرات على مدى العقد الماضي.

إهدار المياه العذبة

تساهم عمليات إنتاج النفط في تفاقم هذا الوضع الذي هو اصلا في حالة حرجة. ولاستمرار استغلال مكامن النفط، تلجأ الشركات النفطية الموجودة في العراق إلى تقنية حقن المياه. ويحتاج استخراج برميل من النفط ما بين نصف برميل إلى ثلاثة براميل من الماء. وتحتوي الآبار غالبا على مياه ممزوجة بالزيت وان جزء من هذه المياه يتم بالفعل استخدامه في عملية الاستخراج.

لكن الآن أصبح هذا لا يكفي ويجب اضافة المياه العذبة من مصادر أخرى: من المياه الجوفية والمياه السطحية او حتى من محطات تحلية مياه البحر، كما تفعل المملكة العربية السعودية.

وتقع محطة الضخ التابعة لشركة إيني في الخورة، والتي هي مصدر معاناة مطير حيث تم إنشاؤها حديثا. وعلى بعد بضع كيلومترات من الخورة، تقع محطة كرمة علي، التي تديرها بريتيش بتروليوم، والتي توفر المياه لجميع حقول النفط العملاقة المحيطة بمدينة البصرة وتستخدمها بعض الشركات مثل إكسون ولوك أويل وبي بي وإيني.

تأتي مياه كرمة علي مباشرة من قناة ابو عبد الله التي تغذي الحوض الذي يعد مصدر المياه الرئيسي في البصرة. إن الضغط الذي تمارسه عمليات استخراج النفط على هذا المورد هائل: فالحقول المحيطة بالبصرة، حيث يتم استخراج ثلثي النفط العراقي، تستهلك ٢٥% من اجمالي المياه المستخدمة في هذه المحافظة.

وقالت إيني في بيان لها إن الشركة لا تستخدم المياه المخصصة للاستخدام البشري. أما مياه القنوات التي تستخدمها الشركة فهي مالحة وملوثة، وبالتالي ستبقى غير مستخدمة. لكن المسوحات الميدانية وصور الاقمار الصناعية تثبت عكس ذلك. كما أن مياه القنوات التي تغذي محطتي مياه كرمة علي والخورة هي نفسها التي تغذي محطة معالجة المياه الحكومية التي توفر ٣٥% من المياه للأسر في البصرة.

أحكام بالغرامات بدون تنفيذ.

“على عكس البلدان الاخرى التي تعمل فيها، فان هذه الشركات في العراق لا تحترم القانون و لا تعمل على الحد من تأثيرها على البيئة لأن ذلك يقلل كلف الانتاج“يستنكر وليد الحامد المدير المسؤول عن البيئة في جنوب العراق.

وتشرف الادارة التي يرأسها الحامد على تفتيش حقول النفط وفرض العقوبات المالية عند الضرورة. وكانت إيني وبي بي ولوك اويل وشل من بين الشركات التي تم الحكم عليها بدفع غرامات لعدم امتثالها للمعايير البيئية ولم يتم، بحسب الحامد، دفع هذه الغرامات أبدا.

وتدفع المجتمعات المحلية ثمنا باهظا لممارسات شركات النفط وفشل الدولة في تنظيمها. فلقد حكم عليهم ان يواجهوا وحدهم التأثيرات المتعددة لاستغلال الذهب الاسود على بيئتهم وصحتهم والتي يشكل الماء أحد جوانبها.

وفي الخورة، يؤكد مطير، الصياد وأب لخمسة أطفال، إن التطور الذي تروج له وتعد به شركات النفط في المنطقة ظل وعدا وأضاف:“كل ما أفعله الآن هو الجلوس في البيت. أنا غاضب ومتعب، ولكن ماذا يمكنني ان أفعل؟“يسأل نفسه. ويبقى مطير متعلقا بالأمل في ان تقوم شركات النفط في نهاية المطاف بإطلاق بعض المياه بمجرد اكتمال المحطة حتى يتمكن من مواصلة مهنة الصيد، معتقدا انه لا يزال هناك بعض الأمل.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة ألترناتيف ايكونوميك الفرنسية

عرض مقالات: