بعد أن وصلت الحكومة العراقية الى نهاية ولايتها الدستورية، أُطلقت حزمة قرارات مالية تحت عنوان “خفض الإنفاق وتعظيم الإيرادات”، من دون أن تحظى بغطاء سياسي أو زمني يضمن تحويلها إلى سياسات نافذة؛ فهذه القرارات، الصادرة عن حكومة محدودة الصلاحيات، لا تُلزم الحكومة المقبلة، ولا تُعد جزءًا من برنامجها، ما يجعلها أقرب إلى إصلاحات على الورق، تُطرح في اللحظة الأخيرة لإدارة الضغط المالي لا لمعالجة جذور الأزمة، وسط شكوك واسعة بقدرتها على التنفيذ أو الاستمرار بعد تشكيل الحكومة الجديدة.
قرارات المجلس الوزاري للاقتصاد
وكان المجلس الوزاري للاقتصاد، أقر خلال اجتماع خُصص لبحث ملف خفض الإنفاق وتعظيم الإيرادات، حزمة من المقررات الهادفة إلى ضبط النفقات العامة وتعزيز الموارد المالية للدولة. وشملت المقررات مراجعة مخصصات ورواتب الرئاسات الثلاث، والعمل على مساواتها برواتب منتسبي رئاسة مجلس الوزراء، إلى جانب تحديث سلم الرواتب لجميع موظفي الدولة، استنادًا إلى توصيات وزارة التخطيط. كما قرر المجلس تخفيض تخصيصات الإيفاد لموظفي الدولة بنسبة 90%، مع حصر الإيفادات بحالات الضرورة القصوى وبموافقة الوزير المختص، فضلاً عن تخفيض نسب الإشراف والمراقبة للمشاريع الجديدة.
تعظيم الإيرادات غير النفطية
من جهته، أكد مستشار رئيس الحكومة، الدكتور مظهر محمد صالح، أن الانخفاض الأخير في أسعار النفط إلى ما دون 60 دولارًا للبرميل يشكّل ضغطًا ماليًا يمكن احتواؤه، ولا يرقى إلى مستوى أزمة مالية، لافتا إلى أن العراق ما يزال يمتلك هوامش أمان مهمة، في مقدمتها احتياطيات أجنبية مريحة، ومستويات دين عام ضمن الحدود الآمنة، إلى جانب استمرار القدرة على الإيفاء بالالتزامات الأساسية، وعلى رأسها الرواتب والإنفاق الخدمي.
وقال صالح في تصريح لـ"طريق الشعب"، إنّ استمرار أسعار النفط العالمية عند هذه المستويات قد ينعكس على موازنة عام 2026 بعجزٍ قابل للإدارة، يتوقف حجمه على تطورات الأسعار، ومستويات الإنتاج، ومدى ضبط الإنفاق العام، مشيرا إلى أن السياسة المالية تعمل على إدارة هذا العجز من خلال إعادة ترتيب الأولويات، وتعظيم الإيرادات غير النفطية، واللجوء المحدود إلى أدوات التمويل الداخلي عند الضرورة، من دون المساس بالاستقرار الاقتصادي.
وأضاف صالح، أن الحكومة اعتمدت معايير واضحة لخفض الإنفاق غير الضروري، شملت إعادة النظر في رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث، وتقليص الإيفادات الخارجية بنسبة تصل إلى 90%، مع الإبقاء على الإيفادات ذات الطابع السيادي والضروري فقط، وبما ينسجم مع مبدأ العدالة وتحمل المسؤولية بدءًا من أعلى هرم الدولة.
وأكد أن هذه الإجراءات لن تؤثر على المشاريع الاستثمارية الحيوية ولا على الخدمات الأساسية للمواطنين، إذ جرى تحييد الإنفاق المتعلق بقطاعات الماء والكهرباء والصحة والتعليم، مع إعطاء أولوية للمشاريع ذات نسب الإنجاز المتقدمة، إلى جانب حماية رواتب الشرائح المتوسطة والدنيا.
وخلص إلى القول، إن السياسة المالية في المرحلة الراهنة تقوم على إدارة ذكية للإنفاق العام، تحافظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وتتعامل مع تقلبات أسعار النفط بوصفها تحديات دورية تتطلب التكيّف والإصلاح، من دون تحميل المواطن أعباءً إضافية.
في الوقت الضائع
ويرى الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي أن الحكومة العراقية، باتت تلعب في الوقت الضائع، وبعد أن ـ وقع الفأس بالرأس ـ على حد وصفه، وتحاول تسجيل نقاط أخيرة لصالحها عبر طرح خطة إصلاح مالي تهدف إلى تقليل الإنفاق وزيادة الإيرادات.
ويشير الهاشمي في حديثه لـ"طريق الشعب" إلى أن "الحكومات في مختلف دول العالم عادة ما تعرض برامجها المالية في بداية تشكيلها، لمعالجة الاختلالات السابقة، وتحسين جودة الإنفاق، وتعظيم العوائد، ورسم سياسة مالية منهجية ومنضبطة. إلا أن ما جرى في العراق كان على النقيض تمامًا من ذلك".
فخلال السنوات الأربع الماضية، يوضح الهاشمي أن "البرنامج الحكومي قام أساساً على التوسع في الإنفاق، من خلال موازنات مالية شديدة التسييس، أسهمت في تضخيم الرواتب والإعانات، وتكديس الموظفين الحكوميين بأعداد تفوق حاجة وقدرة مؤسسات الدولة، إلى جانب تعظيم العجز المالي وتراكم الديون، وترك الفساد يعمل بحرية".
ويضيف أن كل ذلك "حدث في وقت كانت فيه الإيرادات المالية للعراق، ولا سيما عائدات النفط وغيرها، تشهد تراجعاً ملحوظاً، ورغم ذلك تجاهلت الحكومة التحذيرات الداخلية والتقارير الدولية التي دقّت مراراً ناقوس الخطر، محذرة من مخاطر الإنفاق المتضخم في ظل إيرادات متدهورة، من دون أن تلقى أي استجابة".
وبعد ضياع فرص الإصلاح وتفاقم الأزمة المالية بشكل خطير خلال السنوات الماضية، يلفت الهاشمي إلى أن "الحكومة تطل اليوم، وفي نهاية عمرها الافتراضي، بخطة إصلاح مالي، بعد أن بلغ الضغط المالي ذروته، ولم تعد المعالجات الممكنة إلا قاسية ومؤلمة، وغالباً ما سينعكس أثرها على المواطن قبل غيره".
ويطرح الهاشمي تساؤلات حول آليات تنفيذ هذه الخطة، متسائلًا عن "كيفية تطبيقها من قبل حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، ولا تملك الوقت الكافي لتنفيذ معالجات إصلاحية واسعة، فضلًا عن غموض الجهات المنفذة، وآليات الالتزام، والجداول الزمنية، في ظل قرب تشكيل حكومة جديدة".
ويرجّح أن تكون "هذه الخطوة محاولة من الحكومة لتلميع صورتها في أيامها الأخيرة، عبر إعلان خطة إصلاح مالي، ربما بهدف تشجيع الأطراف السياسية على إعادة تكليف رئيس الحكومة الحالي ومنحه فرصة لتنفيذ هذه الخطة".
وأتم حديثه بالقول: "في جميع الأحوال، فإن الحكومة المقبلة، سواء أعيد تكليف رئيس الحكومة الحالي أم تم اختيار شخصية أخرى، ستواجه اختبارًا ماليًا بالغ الصعوبة، سيجبرها على اتخاذ المزيد من الإجراءات القاسية والمؤلمة، وقد يكون التقشف المالي هو العنوان الأبرز للسنوات الأربع القادمة.
إدارة أزمة وليس إصلاحا اقتصاديا
من جانبه، يرى الأكاديمي والباحث الاقتصادي نوار السعدي، إن "الهدف الحقيقي من هذه الإجراءات لا يتمثل في إطلاق إصلاح اقتصادي شامل بالمعنى الدقيق، إذ إن حكومة تصريف الأعمال تفتقر إلى الغطاء السياسي والزمن الكافي للمضي بإصلاحات من هذا النوع".
ويقول السعدي في حديث مع "طريق الشعب"، إنّ "الهدف ينحصر في تقليل النزف المالي واحتواء المخاطر إلى حين انتقال المسؤولية إلى الحكومة المقبلة"، مضيفا أن هذه الخطوات "تحمل رسالة مزدوجة؛ الأولى موجهة إلى الأسواق والجهات الرقابية مفادها أن الوضع المالي ما زال تحت السيطرة مرحلياً. والثانية إلى الحكومة القادمة بأن هامش المناورة بات أضيق مما كان عليه في السابق".
ويوضح السعدي أن "المشكلة تكمن في بنية القرار الاقتصادي ذاته. فالعراق لا يعاني من نقص في الخطط أو التشخيص، بقدر ما يعاني من ضعف الإرادة التنفيذية وتغليب الحسابات السياسية قصيرة الأجل على حساب الإصلاحات المؤلمة".
وينوه السعدي إلى أن "ما يجري اليوم لا يعدو كونه إدارة أزمة أكثر من كونه إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً. فالقرارات الأخيرة قد تسهم في تخفيف الضغط الآني على الخزينة، لكنها لا تعالج جذور الخلل المتمثلة في تضخم القطاع العام، وهشاشة الإيرادات غير النفطية، وضعف الحوكمة المالية".
وحذر في ختام حديثه من أنه "ما لم تنتقل الحكومة المقبلة من منطق “الترشيد المؤقت” إلى إصلاح هيكلي شامل، فإن العراق سيظل عالقاً في الدائرة نفسها، بين إنفاق مرتفع في سنوات الوفرة وقرارات تقشف متأخرة مع أول هزة في أسعار النفط".