اخر الاخبار

في صميم أي منظومة عدالة فاعلة، يقف الادعاء العام بوصفه الحارس الأول للحق العام والضامن لتطبيق القانون وحماية المصلحة العامة. فهذه المؤسسة يُفترض أن لا تكون طرفاً هامشياً أو تابعاً إجرائياً، بقدر كونها ركيزة أساسية في ترسيخ سيادة القانون، ومساءلة المخالفين، وتحريك الدعاوى في القضايا التي تمس المجتمع والدولة على حدّ سواء.

غير أن واقع الادعاء العام في العراق يثير تساؤلات جدية حول قدرته على أداء هذا الدور الحيوي، في ظل محدودية الصلاحيات الفعلية، وتداخل الأدوار مع القضاء، وضعف المبادرة في تحريك القضايا ذات الشأن العام.

أين الخلل؟

ورغم ما يملكه الادعاء العام من صلاحيات قانونية، إلا أن ممارسته العملية تكشف عن فجوة واضحة بين النص والتطبيق، انعكست على أداء المؤسسة في ملفات حساسة، من الانتخابات والخروقات الإدارية، إلى القضايا السياسية والإعلامية، والدعاوى التي تكون الدولة طرفًا فيها.

هذا الضعف، كما يصفه قانونيون وقضاة ومحامون، لا يرتبط بشخصيات أو أفراد، بقدر ما هو نتاج خلل تشريعي وبنيوي، حوّل الادعاء العام في كثير من الأحيان إلى مراقب صامت بدلاً من كونه مبادراً فاعلاً.

صلاحيات شكلية وعلاقة تبعية

في هذا الصدد، قال القاضي المتقاعد والنائب السابق وائل عبد اللطيف، أن الادعاء العام في العراق لم يؤدِّ دوره الحقيقي منذ تأسيسه وحتى اليوم، معتبراً أن هذه المؤسسة لم تحقق المنجزات التي يُفترض بها، رغم امتلاكها صلاحيات قانونية واسعة نظرياً.

وقال عبد اللطيف في حديث مع "طريق الشعب"، أن دور الادعاء العام "بقي ثانوياً، إذ اقتصر في الغالب على متابعة ومراقبة قرارات القضاة دون أن يمتلك تأثيراً فعلياً في توجيه مسار القضايا أو تحريكها، لاسيما بعد عام 2003".

وأشار إلى أن "تعدد التعديلات التي طالت صلاحيات الادعاء العام، وآخرها قبل عام 2017، لم تُحدث فرقاً جوهرياً في أدائه"، لافتاً إلى أن المشكلة "لا تكمن في النصوص فحسب، بل في طبيعة العلاقة بين الادعاء العام والقاضي، إذ يرى الادعاء العام نفسه تابعا لقرار القاضي، وليس صاحب قرار مستقل، ما أفقده القدرة على التأثير الحقيقي".

وبيّن عبد اللطيف أن "ضعف الادعاء العام ينعكس بوضوح في مجالات عدة، منها قضايا التحقيق، والأحوال الشخصية، والدعاوى المدنية المهمة التي تكون الدولة طرفاً فيها، فضلاً عن القضايا ذات الطابع السياسي"، مؤكداً أن "غياب المبادرة في تحريك هذه القضايا يمثل خللاً جوهرياً في أداء المؤسسة".

وأضاف أن "الادعاء العام موجود شكلياً في جميع محاكم البلاد، سواء في محاكم الجنايات أو القضايا المدنية والأحوال الشخصية، إلا أن الاستجابة لملاحظاته واعتراضاته تبقى ضعيفة، حتى من داخل السلطة القضائية نفسها، نظراً لكونه لا يصدر قراراً ملزماً، بل يكتفي بإبداء الرأي، الذي قد يؤخذ به أو يُهمل وفق تقدير القاضي".

ولفت الى أن المشكلة الأساسية "تكمن في عدم منحه الصلاحيات الفعلية التي تمكّنه من اتخاذ القرار وتطبيقه، إلى جانب شعوره بأنه في مرتبة أدنى من القاضي، رغم مساواته به شكليًا في الامتيازات".

وختم حديثه بالقول إن "الادعاء العام، بصيغته الحالية، لا يزال عاجزاً عن الارتقاء إلى المستوى المأمول، مؤكدًا أن إصلاح هذه المؤسسة يتطلب منحها استقلالية حقيقية وصلاحيات واضحة، تمكّنها من تحريك الدعاوى القضائية تلقائياً، ولا سيما في القضايا التي تمس المصلحة العامة، دون انتظار شكوى أو ضغط خارجي".

خلل تشريعي وتطبيقي

من جانبه، قال الخبير القانوني وائل منذر أن دور الادعاء العام في العراق يحتاج إلى إعادة نظر شاملة، سواء على المستوى التشريعي أو في الجانب التطبيقي، مشيراً إلى وجود ضعف واضح في الصلاحيات الممنوحة له، ينعكس سلبًا على قدرته في حماية سيادة القانون، ولا سيما في القضايا ذات الشأن العام.

وأوضح في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن العملية الانتخابية مثلاً، تُعد عملية مركبة تشترك فيها جهات متعددة، من بينها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وأمانة بغداد، وهيئة الإعلام والاتصالات، فضلًا عن مؤسسات أخرى تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إدارة العملية الانتخابية".

واضاف ان "تحريك الدعاوى من قبل الادعاء العام بخصوص الخروقات، يستدعي وجود نصوص قانونية واضحة تحدد آليات تدخل الادعاء العام ودوره الرقابي، إضافة إلى مسؤوليته في محاسبة المخالفين عن الخروقات التي قد تحصل".

وبيّن أن "تعدد الجهات المعنية بالملف الانتخابي يؤدي في كثير من الأحيان إلى ضياع المسؤولية بين أكثر من مؤسسة، الأمر الذي يفضي إلى عدم محاسبة المخالفين أو اتخاذ قرارات حاسمة، خصوصاً في القضايا التي لا تحظى بزخم إعلامي أو تفاعل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، على غرار بعض القضايا التي لا تصل إلى الرأي العام".

وشدد منذر على ضرورة "إقرار نص قانوني واضح وصريح يحدد حدود صلاحيات الادعاء العام، ويمنحه حق التدخل المباشر دون الحاجة إلى تقديم شكوى أو طلب رسمي"، مؤكداً أن "الادعاء العام، بوصفه المؤسسة الحامية لسيادة القانون، يجب أن يمتلك آليات فعّالة تمكّنه من المبادرة القانونية والتحقيق في القضايا التي تمس الشأن العام".

وأشار إلى أن "ضعف دور الادعاء العام يظهر بشكل جلي في القضايا ذات البعد الاعلامي أو تلك التي تشغل الرأي العام، إذ غالباً ما يُشترط لتحريك الشكاوى اتباع سياقات إدارية معقدة، في حين أن المعمول به في العديد من دول العالم لا يتطلب وجود مُخبر أو شكوى رسمية، بل يعتمد على مبادرة الادعاء العام نفسه لفتح التحقيقات واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة".

وختم الخبير القانوني حديثه بالتأكيد على أن "صلاحيات الادعاء العام الحالية ما تزال محدودة ومكبلة بنصوص قانونية بحاجة إلى إعادة صياغة حقيقية، بما يتيح له القيام بدور رقابي فعّال على ما يُنشر أو يُتداول، وتحريك الدعاوى في كل ما يمس القضايا الجنائية ذات الصلة بالشأن العام، دون انتظار شكوى من المواطنين، معتبرًا أن دور الادعاء العام لا يزال دون المستوى المطلوب ويحتاج إلى تطوير جدي".

استقلالية مفقودة

ولم يذهب المحامي زهير ضياء الدين بعيداً عن رأي زملائه، أذ اكد أن الادعاء العام يُفترض به أن يمثل الحق العام وأن يلتزم بالحياد الكامل، دون الانحياز إلى أي من أطراف النزاع، سواء في القضايا الجزائية أو غيرها، غير أن واقع الحال في العراق يشير – بحسب وصفه – إلى خضوع الادعاء العام في كثير من الحالات لسلطة المحكمة ورأي القاضي.

واشار في حديثه مع "طريق الشعب"، الى أن "الأصل القانوني يقتضي أن يكون الادعاء العام جهة مستقلة، لا مجرد انعكاس لرأي القاضي الذي يعمل ضمن محكمته، سواء في محاكم الجزاء أو الجنايات أو غيرها"، مشدداً على أن "دوره يجب أن ينطلق من تمثيل الحق العام والبحث عن العدالة والحقيقة، لا الاكتفاء بمتابعة القرار القضائي أو مجاراته".

ولفت إلى أن "استقلالية الادعاء العام تضررت في بعض القضايا التي أخذت أبعاداً واسعة، ولا سيما على خلفية التعميم الذي صدر عن رئاسة مجلس القضاء، والمتعلق بتحريك الشكاوى ضد من يُسيء إلى الدولة أو يروّج شائعات غير صحيحة"، مبيناً أن "توجيه الادعاء العام بهذا الشكل يثير تساؤلات حول مدى استقلاله، ودوره الحقيقي كجزء من السلطة القضائية لا كأداة خاضعة لها".

وأضاف أن "الادعاء العام، وإن كان جزءاً لا يتجزأ من السلطة القضائية، إلا أنه يجب أن يكون أقرب إلى الحق والعدالة والحقيقة منه إلى التسلط أو تنفيذ التوجيهات".

وبيّن ضياء أن "الارتقاء بأداء الادعاء العام وتحسين فاعليته يتطلب جهداً جاداً من السلطة القضائية نفسها، بوصفها الجهة المعنية بتعزيز موقع الادعاء العام وضمان استقلاليته، وتمكينه من أداء دوره بصوتٍ قوي داخل المحاكم، سواء في مراحل التحقيق أو أثناء نظر القضايا المختلفة".

واتم حديثه بالقول إن "تعزيز دور الادعاء العام هو مسؤولية مباشرة تقع على عاتق السلطة القضائية، التي يفترض أن تنهض بهذه المؤسسة وتمنحها المكانة التي تليق بها، بوصفها أحد أهم ركائز العدالة وحماية الحق العام".